روايه مزرعة مونتانا
مزرعة مونتانا
بقلم,
رومانسية
مجانا
راجل هربان من ماضي مليان دم وذنوب، بيسيب عيلته وبيروح يشتغل في مزرعة بعيدة وقاسية في مونتانا كنوع من الكفارة عن خطاياه. كان فاكر إنه هيلقى برد وموت بس، لكنه اتفاجئ إن ريّسة العمال اسمها وايَت، ست قوية وحادة زي السكينة. من أول نظرة، جاسبر حس برابطة جبارة زي الكيّ بالنار ربطته بيها، وكأنها قدره اللي مفيش منه هروب. دلوقتي بقى عليه إنه يثبت نفسه في الشغلانة الصعبة دي ويكسب احترامها، وهو بيحارب أشباح ماضيه وجوعه القديم.
جاسبر
راجل عاش قرون وشايل ذنوب جيش قديم. قوي ومبيحتاجش يتنفس أو ينام، وبيحاول يكفّر عن ماضيه العنيف. هو هادي بس جواه نار قايدة.وايَت
وريّسة العمال في المزرعة. ست شابة، قوية، لسانها حاد ومبيهمهاش، وعينيها زرقا زي السما. هي "الرفيقة" اللي قدرها اتربط بقدر جاسبر.رويس ومابيل جنسن
أصحاب المزرعة. ناس ناشفة وقاسية زي الأرض اللي عايشين عليها، الشغل عندهم هو كل حاجة.
الطريق كان ممدود قدامه زي نَدبة. جاسبر ويتلوك هيل كان سايق ناحية الغرب في مونتانا يوم راس السنة في عربية دفع رباعي سودة، أقدم من معظم الرجالة اللي على الطريق السريع، من النوع اللي ماسك نفسه بالعند أكتر ما هو ماسك بالحديد. الدفاية كانت بتزيّق ضد البرد، ومش قادرة على ضباب التلج اللي بيزحف على أطراف الإزاز. كان سايق وجوانتياته ناشفة على عجلة القيادة، كتافه ثابتة زي الحجر، وصوت الموتور الخشن مالي السكوت اللي هو كان رافض يكسره. شرق مونتانا ميعرفش حاجة عن الرقة. دي كانت أرض منحوتة من الريح والعضم، أرض مفرودة وواسعة لحد ما تسيح في السما. الأرض كانت ناشفة، والسما واطية، والأفق مزرق كأنه مضروب ومستني عاصفة. عمدان السور كانت واقفة زي شواهد القبور في التلج، وأسلاك شائكة نصها مدفون تحت الكتل التلجية. المواشي كانت مكوّمة وسودة وسط الحقول البيضا، وبخار طالع من مناخيرها زي الشبح. مفيش بني آدم واحد على مرمى البصر لأميال. والمكان ده كان لايق عليه. الأرض كانت قاسية ومبترحمش، وجاسبر كان بيفهم الحاجات اللي مبتعرفش الرحمة. هو نفسه كان واحد منهم في يوم من الأيام. هي اللي لقت الإعلان—لسه قادر يشوفها وهي بتزق الورقة المطبوعة على المكتب في إيثاكا، إيدها الصغيرة شكلها مرتب على الورقة. مطلوب عامل لفصل الشتا. سكن وأكل. مزرعة قرن الأيل، مقاطعة كاستر. مشرحتش إزاي عرفت عن شغل في مزرعة في مونتانا في حين إن معظم العيلة أصلاً مبيقرأوش إعلانات الشغل. مكنتش محتاجة تشرح. هي دايمًا كانت بتشوف أبعد من كلامها. عينيها كان فيها حزن في اليوم ده، كأنها مكنتش بتديله مهرب، دي كانت بتديله حُكم. هو مسألش. عمره ما سألها تشرح رؤاها. الرؤى دي كانت هي خلاصه في وقت من الأوقات، وبرضه كانت هي عذابه. هو بس طبّق الورقة، وحط حاجته في شنطته، وساق لحد ما الطرق اتجمدت تحت منه. كان بيقول لنفسه إن السبب هو إنه مقدرش يفضل مع العيلة. مش بعد اللي حصل معاها. دمها كان بيغني جواه زي ترنيمة مقدسة، كل غريزة في جسمه كانت بتصرخ عشان ياخد، عشان يدمر، عشان يقطع رقبتها الرقيقة. حس بالدم ده بيحرق زي نار المعركة تاني، جوع الحرب القديم بيرعش عظامه. شاف وشه، شاحب ومسحوب، وسمع صوتها بيتكسر زي الخشب الناشف. مكنش ينفع حد يثق فيه. هو مكنش من العيلة. هو كان زي مسدس متعمر على ترابيزتهم. بس الموضوع مكنش بسببها هي وبس. لأ، عمره ما كان بسببها هي وبس. الموضوع كان قرون من الدبح اللي تحت جلده. جيشها من المواليد الجدد، عيال بيتسحبوا نص كبرانين للدم والتراب، صرخاتهم بتتشد منهم وهو بيكسرهم بإيديه الاتنين. كان ريحة اللحم المتفحم في شمس المكسيك، كان حمل القيادة اللي ضاغط على كتافه لحد ما افتكر إنه هيتفلق منه. كان الختم بتاع كل خطيئة شالها، كل واحدة منهم محفورة أعمق من الندوب. كفارة. ده اللي هو كان عايزه. كفارة في مكان قاسي كفاية إنه يعرّيه لحد العضم. كاوتشات العربية عملت صوت وهي بتدوس على التلج وهو بيلف من على الطريق المقاطعة، ودخل بهدوء من بوابة متوّجة بقرون قد البني آدم. رف من قرون الأيائل، لونها أبيض بسبب الشمس ومسمّرة فوق عارضة خشب، مسيطرة على المدخل زي نذير شؤم. الاسم كان مدقوق تحتها بحروف حديد مسوّدة من الزمن: مزرعة قرن الأيل. المدخل كان طويل، على جنابينه أشجار حور متغطية بالتلج بتخبط في بعضها زي العضم في الهوا. وراهم كانت الأرض ممدودة—مساحة من المراعي البيضا والخشب الغامق، تلال طالعة لحد ما ابتلعها الأفق. مباني خارجية متكومة ضد الجو: إسطبلات واطية على الأرض، سقَايِف متنية من التلج، ومبنى سكن العمال الدخان طالع من مدخنة بتاعته. وفي قلب ده كله كان البيت الأساسي، مبني بالخشب ومربع، البلكونة بتاعته متعلق عليها قرون، وفوانيس قديمة بتترجح مع نَفَس العاصفة. ده كان مكان شاف شتا قاسي ومبيعتذرش عن ده. جاسبر بطّل الموتور وقعد في السكوت. البرد اندفع لجوه، تقيل ونضيف، بيزحف جوه الكابينة كأنه كائن حي. التلج كان بيهمس على الإزاز، وبيحك في الكبوت. كان قادر يسمع أنين الأرض الخافت تحت وزن شهر يناير، صوت بلد قديمة كفاية إنها تفتكر كل شبح عدّى عليها. افتكرها تاني—لمستها على دراعه، صوتها ناعم بس مش مهزوز. "ده هيساعد." هو مسألهاش قصدها إيه. يمكن كانت شايفة حاجة. يمكن كانت شافتها هي. يمكن هو مكنش عايز يعرف. كل اللي كان يعرفه إن دي كانت نهاية الطريق. يا إما هو هيستحمل الشتا ده ويعديه، يا إما الشتا هو اللي هيقضي عليه. خيال اتحرك على البلكونة، مش واضح بسبب التلج. بعدين خيال تاني جنبه. شخصين، متلفحين في بالطوهات، مستنيين. أصحاب المزرعة، أكيد. الراجل طويل وعريض الكتاف، والست أرفع بس ثابتة، ملامحهم منحوتة من عمر من الشغل. ناس عاشت كتير مع الأرض وعرفت إزاي تستحملها. جاسبر خد نَفَس هو مكنش محتاجه وفتح الباب. البرد عض زي كلب صيد في عضم، حاد كفاية إنه يقطع حتى جلده الحجري. لأول مرة من شهور، حس بحاجة تانية غير إحساس الذنب اللي بياكل فيه. كان إحساس نضيف، وخام، ومبيرحمش. نزل قبعته لتحت، وحرفها ضلل على عينيه، وخرج في التلج. الأشباح مشيت وراه قريب. خشب البلكونة زيّق تحت وزنه وهو بيطلع، كل تزييقة صوتها عالي في سكون التلج. العاصفة مكنتش لسه بدأت، بس السما كانت لونها حديدي غامق، متعلقة تقيلة كأن السهل كله ناوي يقع عليه مرة واحدة. الشخصين كانوا واقفين مستنيين. الراجل كان عريض الكتاف، البالطو بتاعه مترقّع عند الكوع، وشه متقطع بخطوط عميقة كأنها منحوتة بالهوا. من نوع الرجالة اللي الأرض مش بس بتستحملهم، دي بتشكلهم. جنبه، الست كانت رفيعة وحادة، عينيها بتلمع زي حجر الصوان تحت حرف قبعتها. مكنتش بتتململ، ولا بتنقل وزنها. كانت بس بتبص له، ببرود وقطع، كأنها شايفة كل كدبة شالها مكتوبة بوضوح على جلده. جاسبر لمس طرف قبعته. "مساء الخير." "إنت العامل الجديد،" الراجل قال، من غير مقدمات ولا ترحيب. مجرد يقين قاطع لراجل شاف ميت مُشرد بينزلوا من ميت عربية. "أيوه يا فندم." صوت جاسبر طلع واطي وثابت. اللكنة بتاعته كانت ممدودة، بقايا من الجنوب عمره ما عرف يتخلص منها. الراجل مد إيده بالجوانتي. "أنا صاحب المكان. ودي مراتي. إحنا اللي ماسكين المزرعة." جاسبر مسك الإيد، سلم عليه بقوة. الراجل كانت مسكته زي الخشب، ناشفة ومبتتنيش. الست هزت دقنها بس، بس عينيها مسبتش وشه. "هتنفع،" قالت في الآخر، كأنها بتديله إفراج مشروط. الراجل لف ونزل من على البلكونة، جزمته بتعمل صوت على الأرض الناشفة. "طب يلا. نمشي ونتكلم. أحسن أعرفك على المكان قبل ما النور يروح." جاسبر مشي وراه، والعربية بتطقطق وبتبرد وراه. جزمتهم كانت بتغرس عميق في التلج اللي اتكوم، والهوا حاد كفاية إنه يقرص في البالطو والبنطلون. عدوا على الإسطبل الأول—مبنى طويل وواطي قاعد ضد الهوا، خشبه مسوّد من الزمن. حاجز ربط بره عليه خرابيش حوافر وسنان، وريحة الحصنة طالعة حتى في البرد. وراه، سقيفة العدة كانت مايلة تحت وزن التلج، الباب مقفول بجنزير. الراجل شاور وهما ماشيين. "الإسطبل ده مركزك الأساسي. أوضة العدة مقفولة—الراجل التاني هيديلك مفتاح. القش متكوم في السقيفة. متهدرش فيه. الأكل متقسم بالوزن والراس. هو هيفهمك الحسبة." الست قاطعته، صوتها زي السلك المشدود. "شغل الشتا مش هزار يا أستاذ. لو اتأخرت، المواشي هي اللي بتدفع التمن. إحنا مابنشغلش رجالة عشان سواد عيونهم." "حاضر يا فندم،" جاسبر قال. الكلمتين طلعوا هاديين، بس ثابتين. هو اتقيّم واتشاف قليل قبل كده؛ ده مكنش جديد. عدوا من جنب الحظاير، سياجها متغطي بالصقيع، والحبال ناشفة ومتعلقة زي تعابين ميتة. خط من عمدان السور كان ممدود ناحية التلال، السلك الشايك متني من التلج، من نوع الشغل اللي مبيخلصش أبدًا. عين جاسبر تابعت الأفق، مسطح ومفيش نهاية، مقبرة بيضا السما بتبلع فيها كل حاجة. "الشغل بسيط،" الراجل قال، مع إن نبرته وضحت إن بسيط مش معناها سهل. "أكل، تشييك على مواسير المية، تكسير تلج، تصليح سور. لما ييجي موسم الولادة هتشتغل لحد ما تقع من طولك. لحد وقتها، المطلوب بس إنك تحافظ على القطيع عايش." الست شخرت شخرة حادة. "وعلى نفسك كمان، لو عندك مخ كفاية لده." جاسبر هز راسه وبس. افتكر ساحات المعارك، وليالي كان بيحرس فيها الخطوط وريحة الموت تقيلة زي القطران، ومسيرة تحت شمس بتسلخ الجلد وبتسيب الرجالة عنيهم فاضية. البقاء مكنش جديد. البقاء كان كل اللي هو يعرفه. أخيرًا، سكن العمال بان. مبنى خشب واطي، سقفه متني تحت وزن التلج، ودخان رفيع بيلف وطالع من مدخنة بتزيّق في الهوا. جوز فوانيس كانوا بيرعشوا خفيف عند المدخل، نورهم بيرتعش قدام الضلمة. رويس وقف عند السلالم، وسند إيده على السياج. "هنا المكان اللي هتنام فيه. السراير مزنوقة. الدفاية بتبقى سخنة أوي لو فيه خشب كفاية. وايَت هيشوفك محتاج إيه." نظرة مابيل فضلت متعلقة بيه، قاسية ومبتتقريش. "هتاخد أوامرك من وايَت. ده الريّس بتاع العمال. اللي وايَت يقوله، تعمله." وايَت. جاسبر خبى الاسم في آخر عقله. تخيل راجل تخين من سنين شغل المزرعة، إيديه خشنة وحروق حبال، يمكن متعور، يمكن شايب. راعي بقر كسب ثقة آل جنسن شتا ورا شتا. جاسبر قال: "مفهوم." رويس زق الباب فتحه، وخرج نَفَس هوا دافي تقيل بريحة القهوة، والدخان، والعرق. ريحة رجالة، ريحة شغل، ريحة ليالي طويلة مقفول عليهم كويس ضد البرد. رويس قال: "هو ده. أهلاً بيك في إلكهورن." جاسبر وقف على العتبة، التلج بينقّط من حرف قبعته، وحرارة سكن العمال بتلمس وشه. وراه كانت ممتدة مراعي الشتا، فاضية ومبترحمش. قدامه مستنياه حياته الجديدة، والراجل اللي اسمه وايَت اللي هيمسك اللجام. خطى لجوه. الأشباح مشيت وراه قريب. هوا سكن العمال كان تقيل بالدخان والحرارة، من النوع اللي بيلزق في الحيطان بعد سنين من الشتا اللي عدّوا عليه. دفاية ببطن منفوخة كانت بتزمجر في الركن، بطنها الحديد بتتوهج، والمكان ريحته قهوة مغلية لحد ما بقت زي القطران، وجلد محطوط قريب أوي من النار، وصوف مبلول، وعرق. الجزم والبالطوهات مرمية على الأرض في كومات بإهمال، السراير مترصصة على الحيطان زي فتحات التوابيت، هياكلها مسوّدة من الزمن ومراتبها هابطة بذكرى الرجالة اللي عدّوا من هنا. على ترابيزة صنوبر طويلة كان قاعد اتنين عمال، وكوتشينة مفرودة بينهم. ضحكهم كان من النوع اللي بيتولد من رجالة اتعودوا زيادة عن اللزوم على الشغل التقيل والمشروب التقيل. واحد كان رفيع، بشنب، من نوع الوشوش اللي كأنها منحوتة بالهوا، والتاني عريض وخدوده حمرا، بابتسامة واسعة زي الوادي. رفعوا عينيهم لما جاسبر عدى من الباب. هو ميّل قبعته، بأدب زي ما اتربى. جاسبر قال، ولكنته ممدودة بهدوء بس بوضوح في الأوضة: "رويس قالي إني هاخد أوامري من راجل اسمه وايَت. حد فيكم هو ده؟" الرجالة انفجروا، والضحك فرقع عالي وحاد زي ضربة بندقية. "يا راجل يا طيب،" أبو شنب قال وهو بيشهق وبيمسح عينيه. "إنت فاكرنا إحنا وايَت؟" العريض خبط على الترابيزة، ولسه بيضحك. "دي حلوة دي. وايَت هتنفخك لو سمعت الكلام ده." جاسبر كشر، الكلمة منزلش صح في ودانه. فتح بقه عشان يسأل— وبعدين صوت قطع الضحك زي السكينة. واطي، ومنوّر، وحاد بخفة دم. حلو زي العسل، وأكيد زي جرس كنيسة، وسريع زي ضربة كرباج. صوت كأنه رن جوه عظامه، وسكّت كل شبح، وكل جوع. "في الحقيقة،" الصوت قال، ناعم زي الحرير وهو بيتسحب على الصلب، "أبقى أنا." جاسبر لف. كانت آية. الدنيا ضاقت على الخيال اللي ساند بكسل على عتبة الباب، مربعة إيديها، والضلمة مغطياها في نور الدفاية. كانت لابسة بنطلون قماش لونه باهت عند الفخاد، وجزمة متبهدلة على الآخر، وقميص متشمّر لحد كوعها. شعر أسود طويل نازل على ضهرها زي نهر في نص الليل، ونور اللمبة بييجي على خصلات منه لحد ما لمعت أسود مزرق. بشرتها كانت واخدة لون الشمس، سمرا ودافية، وشوية نمش متوزعين على قصبة مناخيرها. وعينيها—يا إلهي، عينيها. زرقا زي سما مونتانا في عز الصيف، وبتلمع زي مية التلج، وقوية كفاية إنها تشق راجل نصين من غير ما تطلع سكينة. عينيهم اتقفلت عليه، ثابتة ومبترمش، وجاسبر حس بحاجة جواه بتقع على ركبها. رابطة الرفيقة ضربته زي سيخ حديد محمي بالنار على روحه مباشرة. كانت كاوي، ومطلق، ومبيرحمش. كل حرب حاربها، وكل خطيئة شالها، وكل ميل هرب فيه—كله اتحرق في اللحظة دي، اتكوى فوقه بمنظرها. مكنتش مجرد ست. كانت هي العاصفة اللي بره، والنار اللي في الدفاية، والسبب إن الأرض لسه بتلف تحت جزمته. كانت هي الخلاص والجحيم في واحد. للحظة، جاسبر مقدرش يتنفس، مقدرش يتحرك. الأشباح اللي كانت بتطارده بقالها قرن سكتت، وطّت راسها كأنهم حتى هما عارفين إنهم اتهزموا. بلع ريقه بصعوبة، وقدر يطلع صوت من زوره اللي اتقفل. قبعته مالت، وصوته طلع خشن بس فيه تبجيل، زي صلاة في شكل كلمات. قال بلكنته الممدودة: "يا هانم. اسمي جاسبر هيل. لسه متعين كعامل." بقها اتقوس، ببطء وخبث، من نوع الابتسامة اللي على الجنب اللي بتوعد بمشاكل. قالت بصوت خفيف بس حاد: "غريبة. شكلك كأنك عمرك ما ركبت خيل يوم واحد في حياتك." الكلام كان المفروض يلسعه، بس بدل كده نزل حلو، واتغرس عميق. حس بشرارة مسكت في صدره، سخونة ملهاش دعوة بالدفاية. هي اتريقت عليه، ويا رب ساعده، هو عجبه ده. عجبه لسانها الحاد، وعجبته الطريقة اللي بصتله بيها كأنه مجرد مُشرد تاني تقيّمه وترفضه. ابتسامة بطيئة شدت بقه، من النوع اللي بييجي خطير وواثق. ركز وزنه كله في لكنته الممدودة، تقيلة زي العسل وحادة زي السيف. قال: "طيب يا حلوة. أنا معروف عني إني بفاجئ الناس." الدفاية طقطقت. الريح أنّت على الشبابيك. وجاسبر عرف، بيقين زي يقين الخطية، إن مفيش حاجة في دنيته هترجع زي ما كانت أبدًا. العاملين اللي على الترابيزة كانوا بيراقبوه زي الصقور، عينيهم بتلمع، وابتساماتهم حادة. ووراهم وقفت هي—الست اللي خلاص وصمت نفسها جوه عظامه بنظرة واحدة. وايَت روز يولي، ساندة براحة على العامود، مربعة إيديها، وعينيها زرقا لدرجة إنها ممكن تكون مسروقة من السما نفسها. قالت وصوتها ناشف زي التراب وأقطع منه مرتين: "المنظر الحلو اللي زيك ده. مش هيوديك في حتة هنا. الحلاوة مبتأكلش المواشي. الحلاوة مبتكسرش التلج. والحلاوة أكيد مبتصلحش سلك شايك في عاصفة تلجية." كلامها كان بيقطع، بس جاسبر حس بيه بينزل خفيف زي الريشة، زي مهماز بيعض كفاية بس إنه يخلي الحصان يجري أقوى. الرجالة اللي على الترابيزة ضحكوا، ورموا كوتشينتهم، مستنيينه يتلخبط. بس جاسبر متلخبطش. هو ميّل قبعته لتحت أكتر، ببطء زي العسل، مخبي الابتسامة اللي كانت بتهدد تطلع. صوتها، حاد زي الكرباج وناعم زي العسل، نزل عميق، وكل شوكة ربطته بيها أكتر. زقت نفسها من على العامود بالرشاقة الكسلانة بتاعة حد عارف إن الأوضة كلها مايلة ناحيتها. "السرير ده فاضي،" قالت وهي بتهز دقنها ناحية الحيطة البعيدة. "الملايات خشنة، الدفاية بتبقى سخنة لو أكلت خشب. الدولاب هناك للجزم، الحمام آخر الطرقة. القهوة دايمًا موجودة، مع إنك هتتمنى إنها متبقاش موجودة." جاسبر حط شنطته على السرير اللي شاورت عليه، الشنطة تقيلة ومفيهاش غير كام قميص، وجوانتيات، وكدب. سند إيده على العامود، ولف ضهره كفاية بس إنه يقابل عينيها. "متشكر أوي يا هانم." ده خلى حاجبها يترفع، ولمعة حاجة في نظرتها—فضول، أو يمكن مجرد تسلية. ربعت إيديها أكتر، شفايفها بتترعش ناحية ابتسامة على الجنب مبشرش بخير. "شغل الأكل بتاع الفجرية،" قالتله. "هو ده اللي هتثبت فيه نفسك. مش مهم كنت إيه قبل كده، مش مهم بتقول إنك تقدر تعمل إيه. لازم توريني. ولحد وقتها، إنت مجرد ولد حلو تاني لابس قبعة. فاهم يا راعي البقر؟" الكلمة نزلت زي القلم واللمسة في نفس الوقت. راعي بقر. قالتها كأنها نكتة، كأنها مش بتاعته، كأنها بتتحدّاه يكسبها. ويا رب ساعده، هو حبها. هو كان عايز لسانها الحاد، عايز العضة اللي في كلامها، عايز الطريقة اللي بصتله بيها كأنه يستاهل الاختبار. هو محَسش إنه عايش كده بقاله قرن—ولا في ساحة معركة، ولا في الدم. دي كانت حاجة تانية. حاجة أسخن. ساب ابتسامة بطيئة تلف على بقه، لكنته نزلت دافية وثابتة، صوت كان ممكن يبقى صلاة لولا السخونة اللي فيه. "أظن إني هكون موجود مع الفجر يا هانم. وناوي أفاجئك." ضحكت، ضحكة سريعة وشقية، ولفت ناحية المطبخ. جزمتها خبطت خبطة فاضية على الخشب، الصوت حفر نفسه في ذاكرته. رمت الكلمة من فوق كتفها: "هنشوف يا راعي البقر." الدفاية فرقعت. الرجالة اللي على الترابيزة لموا كوتشينتهم، وبيقولوا تصبحوا على خير بصوت واطي. الجزم اترمى على الأرض، البطاطين خشولت، السكوت نزل على الرجالة الشغالة وهما بيناموا. واحد ورا التاني، السراير اتملت بالنَفَس الثابت، وهمهمة الدفاية هي دقة القلب الوحيدة اللي باقية في الأوضة. جاسبر فرد جسمه على سريره، قبعته مايلة لتحت، ولسه لابس جزمته. مكنش محتاج النوم، ومكنش هيلاقيه حتى لو حاول. بدل كده فضل ثابت، عينيه مركزة على سقف الأوضة، وطعم ضحكتها لسه بيحرق في صدره. وايَت. الريّسة. الوصمة. الخلاص والجحيم. عرف وقتها، بيقين زي أي قسم في ساحة معركة، إنه هيجرف تلج لحد ما عظامه تتكسر، ويمد سلك شايك لحد ما إيديه تتقطع، ويبقى راعي بقر للأبد وطول الأيام—طالما ده هيخليه قريب من نارها. الأشباح فضلت ساكتة، اسكتها حاجة أقوى منها. صوتها هي بس اللي بقى بيطارده دلوقتي.
تعليقات
إرسال تعليق