الأقسام

قصص تاريخية

... ...

قصص فانتازيا

... ...

قصص رعب

... ...

قصص رومانسية

... ...

قصص مخصصه لك

    قصص المختلط

      روايه عمليات 141

      عمليات 141

      بقلم,

      أكشن

      مجانا

      واحد من فرقة عمليات خاصة "141"، زمايله بيتهموه بالخيانة فجأة. بيفضلوا يعذبوه لمدة أسبوعين عشان يجبروه يعترف، وهو رافض يتكلم لأنه بريء. في الآخر، بيكتشفوا إنه اتدبس وإنهم عذبوا صاحبهم على الفاضي. بيحاولوا ينقذوه وهو بيموت في المستشفى، في نفس الوقت اللي زميلهم الرابع بيرجع وميعرفش حاجة. القصة كلها عن إحساسهم الرهيب بالذنب والندم على اللي عملوه في أقرب واحد ليهم.

      أنت

      لعسكري اللي اتظلم. اتهموه بالخيانة وعذبوه، ورغم كده فضل صامد. هو دلوقتي بين الحياة والموت.

      برايس

      الكابتن. هو اللي أمر بالاستجواب، وحاسس بندم وعار فظيع بعد ما عرف الحقيقة.

      جوست

      الملازم. كان قاسي في الاستجواب، وعينيه بقت مليانة ندم بعد ما اكتشف براءتك.
      روايه عمليات 141
      صورة الكاتب

      الخَدَر.
      
      هو ده كل اللي بقيت تحس بيه.
      
      أيام ورا أيام قضيتها راكع على خرسانة باردة، دراعاتك مشدودة فوقك بجنازير، جسمك متغطي بدم ناشف متجلط من الإصابات الكتيرة اللي مالية جسمك. أول حاجة فقدت الإحساس فيها كانت كتافك، من كتر ما هي مرفوعة في وضع واحد لوقت طويل. اللي بعده كان ركبك، من كتر ما انت محمل وزنك عليها، مش قادر تفردهم عشان تسمح للدم يمشي فيهم. وبعدها كان ضهرك، مفتوح ومين عارف بكام جرح غويط، محدش عبره ومحدش اهتم بيه، بغض النظر عن كمية الدم اللي صبغت الأرض تحتك.
      
      لسوء الحظ، انت لسه بتقدر تحس بالبرد. خصوصًا لما جردل مية متلجة بيترمي عليك كل ما يا دوب تلحق تغمض عينك وتنام. قشعريرة عنيفة بتسري في جسمك كله، زي ما يكون دبابيس وإبر ماشية تحت جلدك. فكك قافش جامد وانت بتحاول تمنع سنانك من التكتكة. مش قادر تستعيد أي دفا تاني حتى لما المية بتنشف، لأنك متقلع كل هدومك ماعدا البوكسر الأسود بتاعك. مفيش أي حاجة مغطية جسمك تساعدك إنك متتجمدش. انت شبه متأكد إنك لو قدرت تشوف نفسك، إن شفايفك واحتمال صوابع إيديك ورجليك هيكون لونهم مزرق.
      
      لما باب جحيمك الشخصي بيتفتح انت مبتتحركش. مجرد إنك مبحلق في الأرض قدامك بعيون زايغة وميتة. الكلام اللي بيطلع من بق معذبينك - اللي كانوا في يوم من الأيام زمايلك - ببساطة بيدخل من ودن ويطلع من التانية. عارف إنهم بيسألوا نفس الأسئلة اللعينة اللي بيزنوا عليك بيها من أول يوم.
      
      بعت المعلومات لمين؟
      خنت الـ ١٤١ ليه؟
      انت في صف مين بالظبط؟
      
      انت من زمان بطلت تحاول تترجاهم عشان يصدقوا براءتك. مفيش أي حاجة هتقولها هتقنعهم إنك مش الخاين اللي هما مفترض بيدوروا عليه. إن أكيد في حد دبسك، لأنك عمرك ما هتخون فرقتك - عيلتك. الناس اللي قضيت سنين بتحارب وتهزر جنبهم. ناس من كام أسبوع بس كنت مستعد تضحي بحياتك عشانهم.
      
      انت مابتتأثرش لما بُونية بترزع في خدك، بتفتح تاني الجرح اللي كان قشر واللي اتسببتلك فيه من أول يوم. دي خامس مرة يتفتح تاني، ويخلي الدم الدافي يسرسوب على خدك قبل ما ينقط على صدرك العريان، وينضم لخطوط الدم المتجلط من الأيام اللي فاتت.
      
      إيد خشنة لابسة جوانتي بتمسك فكك بقبضة قوية ومبترحمش، بتجبر وشك إنه يترفع من وضعه الواطي. رؤيتك مزغللة، عينيك مش مركزة وانت بتبص في الفراغ من ورا الشخص اللي مقرفص قدامك. مش قادر تشوف النظرة اللي في عينيه وهو بيلاحظ قد إيه عينيك ميتة. إزاي النور اللي كان بيشع منهم انطفى من زمان. إزاي مفيش أي علامة مقاومة باقية فيك. كأنك استسلمت خلاص.
      
      لأنك فعلًا استسلمت.
      
      انت بطلت تحاول تقنعهم ببراءتك.
      انت بطلت تحاول تهرب.
      انت بطلت تسمع لأسئلتهم المكررة واللي مبتخلصش.
      انت بطلت تتفاعل مع التعذيب اللي بيعرضوك ليه كل يوم.
      انت بطلت تفكر إنك ممكن تخرج من الأوضة دي عايش.
      
      والسبب الوحيد إنك لسه ماسك نفسك هو إنك رافض تموت وهما لسه فاكرينك خاين. انت رافض تموت لحد ما يكتشفوا إنك كنت بتقول الحقيقة طول الوقت - وإن حد دبسك.
      
      انت رافض تموت لحد ما تشوف نظرات الندم في عينيهم وهما بيدركوا إن كان لازم يسمعولك.
      
      وشك اتساب لما الشخص اللي كان ماسكه يأس إنه يخليك ترد عليه. انت بطلت ترد تقريبًا في اليوم التالت، وده كان من حوالي تمن أيام. ومهما عملوا فيك دلوقتي، انت رافض تقول أي حاجة.
      
      "إحنا ليه لسه بنعمل كده؟" "سوب" بيسأل، وهو مربع إيديه على صدره وهو واقف في مكتب "برايس". "هو مقالش أي حاجة من أكتر من أسبوع."
      
      "عشان معندناش اختيار تاني." "جوست" بيرد، وهو بيفرد ويقفل إيده اللي بالجوانتي وهو ببيبص على دمك اللي ملطخها. "هو خاين. ولحد ما يعترف، إحنا مكملين."
      
      "برايس" بياخد نفس طويل وهو بيميل لقدام في كرسيه، كيعانه مسنودة على مكتبه وهو بيضغط بصوابعه على صدغه. الموقف ده كله موتره أكتر من اللازم، وهو بس عايزه يخلص. ومش هيخلص غير لما انت أخيرًا تعترف بكل حاجة. بعد كام لحظة بينزل إيديه، عينه بتمشي على الباقيين في الأوضة. "إحنا مكملين لحد ما نلاقي إجابات. غيروا التكتيك لو لازم. بس متوقفوش لحد ما يتكلم."
      
      بعد كام يوم، الأمور أخيرًا بتتغير.
      بس مش بالطريقة اللي أي حد كان متوقعها.
      
      انت راكع على الأرض زي كل يوم فات، غرقان في الدم من جروح جديدة وجروح اتفتحت تاني. "جوست" واقف قدامك، بيزعق في وشك سؤال ورا سؤال. لو مجاوبتش خلال كام دقيقة، "سوب" بيعاقبك. السكينة اللي في إيده غرقانة بدمك، السائل الأحمر بينقط من النصل على الخرسانة وهو واقف فاضي مستني "جوست" يسأل سؤال تاني.
      
      أول ما الراجل المقنع بيفتح بقه عشان يسأل تاني، الباب بيتفتح برزع.
      
      "فكوه." "برايس" بيأمر أول ما بيدخل الأوضة. "سوب" بيفتح بقه عشان يسأله بس بيقف لما يلاحظ النظرة اللي على وشه. وشه شاحب، عينيه واسعة، كأنه لسه شايف عفريت. بيقرر إنه ميسألوش، وبدلًا من ده بيتحرك عشان يفك الجنازير من على معاصمك. أول ما بتتفك انت بتقع لقدام، "برايس" بيلحقك فورا وهو بيسند جسمك المرتخي. الاعتذارات بتتدفق من بقه وهو حاضنك، إيديه بتترعش وهو بيحاول يتجنب الإصابات الكتيرة اللي مغطية جسمك.
      
      مبتحصلش غير لما المسعفين بيجروك لبره إن "برايس" أخيرًا بيبص للباقيين، بالعافية قادر يتكلم من الغصة اللي في زوره وهو بيقول الكلمات اللي بتغير كل حاجة.
      
      "كان بريء. واحد كلب تاني هو اللي دبسه. كان بيقول الحقيقة طول الوقت."
      
      وده اللي بيخلي التلاتة يندموا فورًا على الأسبوعين اللي فاتوا. أسبوعين من التعذيب كان ممكن يتجنبوهم لو كانوا بس إدوك حتى فرصة صغيرة. لو كانوا حققوا أكتر، أو سمعوك. بدلًا من ده، هما فورًا نطوا على تعذيبك في محاولات عشان ياخدوا إجابات.
      
      ويمكن هما قسوا عليك أوي كده لأن فكرة إنك انت بالذات تخونهم وجعتهم أوي، لدرجة إنهم مقدروش يمسكوا نفسهم عن إنهم يعوزوا يوجعوك هما كمان.
      
      
      
      
      
      أفراد الـ ١٤١ كانوا بيجروا في طرقات المستشفى العسكري بعد ما أخيرًا جالهم تصريح يشوفوك، بعد ساعات من الانتظار وهما على أعصابهم.
      
      لكن، يا دوب وهما بيلفوا عند أوضتك، جرس إنذار كأنه ضرب. الممرضات والدكاترة كلهم جروا على أوضتك، وصوت خافت بيقول "قلبه بيقف!" ده كان كل اللي سمعوه قبل ما الباب يترزع في وشهم.
      
      التلاتة اتجمدوا في مكانهم من الفزع.
      
      كان اتقالهم إنك مستقر. نايم، آه، بس مستقر.
      
      لكن دلوقتي انت بتموت على بُعد خطوات منهم، ومفيش أي حاجة في إيديهم يعملوها.
      
      "إيه اللي بيحصل؟" صوت "جاز" خطف انتباههم بعيد عن باب أوضتك المقفول. هو كان لسه راجع من مهمة لوحده، بعد ما "لاسويل" بلغته باقي الفرقة فين. "جاز" المسكين معندوش أي فكرة عن أي حاجة كانت بتحصل وهو مش موجود.
      
      وباقي أفراد الـ ١٤١ مكنوش حتى فكروا إيه اللي هيحصل لما هو يرجع.
      
      في الأول كانوا عاملين حسابهم إنهم هيفهموه إنك طلعت خاين. بس بعد كده اتضح إنك مكنتش، وإنهم عذبوك على الفاضي. ودلوقتي انت في الأوضة التانية، بتموت أو يمكن ميت خلاص. ولا مرة جت في بالهم فكرة "جاز" أو هيقولوله إيه لحد اللحظة دي.
      
      عين "جاز" عدت على التلات رجالة بسرعة، وهو بيلاحظ مين اللي ناقص. "هو فين؟ هو كويس؟"
      
      الباقيين مالحقوش حتى يردوا، وباب أوضتك اتفتح على مصراعيه. السرير بتاعك اتدفع لبره الأوضة، أصوات عالية بتزعق، وإيدين مرتبكة بتزقه في الطرقة، وممرضة قاعدة على السرير فوقك وهي بتعمل ضغط على صدرك في محاولات إنها تخليك عايش لوقت كافي لحد ما توصلوا لعمليات الطوارئ.
      
      "جاز" كان بيتفرج على المنظر وعينيه مبرقة، بالعافية قادر يلمح جسمك من وسط الناس اللي محوطينك وهما بياخدوك. هو تقريبًا مكنش هيلمح وشك الغايب عن الوعي والمغرق دم، لكنه لمحه، والصورة اتحفرت في دماغه في ساعتها.
      
      "إيه..." كلامه اتقطع لما خد باله من النظرات اللي على وشوش زمايله. "برايس"، الكابتن بتاعه اللي دايمًا صارم ومحترف، شكله على وشك الانهيار. "جوست"، الملازم اللي نادرًا ما بيبين وشه أو مشاعره، الندم باين في عينيه. و"سوب"؟ ده كان منهار خلاص، بيعيط بصوت عالي وهو ساند ضهره على الحيطة قبل ما يتزحلق يقعد على الأرض، وماسك راسه بين إيديه وهو بيتهز قدام وورا.
      
      "جاز" فضل ساكت، بيستوعب رد فعل كل واحد فيهم. هو عارف إنهم مطلعوش في مهمة... وانت أكيد مروحتش في مهمة لوحدك. وكونك في الـ ١٤١ لوحده بيخلي كل العساكر التانيين يحترموك ويخافوا منك، وده معناه إن مفيش حد عنده الجرأة الكافية إنه يأذيك لأي سبب... ده غير إنه مش قادر يتخيل أصلًا إن في حد ممكن يكرهك. خصوصًا وانت بالانطلاق والود ده.
      
      وهو واحدة واحدة بيوصل لاستنتاج واحد، فكه قفش على بعضه جامد، وبالعافية بيخلي سؤاله اللي جاي يطلع. "انتوا عملتوا فيه إيه؟"
      
      "برايس" وشه اتعصر أول ما سمع السؤال، وعياط "سوب" علي أكتر وهو بينكمش على نفسه زيادة. "جوست" ببساطة اتخشب، عضلاته شدت كأنه خايف يعمل أي حركة.
      
      "جاز" عرف إن استنتاجه كان صح من غير ما هما يأكدوله بالكلام.
      
      "برايس" عدى إيده على بقه، وخد نفس عميق قبل ما يتكلم، وهو بيحاول يمنع صوته إنه يتهز. "إحنا لازم نتكلم في مكان لوحدنا."
      
      الأربع رجالة اتكدسوا في أوضة فاضية، و"جوست" اضطر يجر "سوب" بنفسه من على الأرض عشان يدخل معاهم. وأول ما الباب اتقفل وراهم، "جاز" ربع إيديه على صدره وهو مبحلق في الكابتن بتاعه. الراجل اللي كان بيحترمه ويثق فيه، بس دلوقتي هو مش متأكد إذا كان الراجل ده يستاهل المشاعر دي ولا لأ.
      
      "برايس" قعد على كرسي في ركن الأوضة، وسند كيعانه على رجليه. هو عارف إن الحوار ده هيبقى صعب، وإنه لو مكنش قاعد، غالبًا كان هيقع على الأرض من العار. غمض عينيه، بيجمع أفكاره قبل ما يبدأ يشرح. "من حوالي أسبوعين وزيادة، جالنا بلاغ إنه خاين... إنه كان بيدي معلومات للأعداء. كان المفروض نشكك في الكلام ده... كان المفروض نحقق عشان نشوف الكلام ده حقيقي ولا لأ. بدلًا من ده، إحنا نطّينا على طول على استجوابه. إحنا حسينا بالخيانة، وكنا عايزين إجابات. لمدة أسبوعين، إحنا عذبناه في محاولات عشان ناخد منه إجابات."
      
      "برايس" سكت للحظة، وصور ليك وانت راكع غرقان في دمك بتعدي في دماغه. هز راسه عشان يطرد الصور دي من دماغه قبل ما يكمل. "بعد أسبوعين، أخيرًا اتكشف إنه كان بريء. وإن واحد تاني هو اللي دبسه. هو عمره ما عمل أي حاجة من الحاجات اللي اتهمناه بيها." إيديه قفشت في بعضها، وعقل صوابعه ابيضت، وهو بيطلع الجملة الجاية من بين سنانه. "كان لازم نصدقه لما قال إنه بريء."
      
      "جاز" فضل مبحلق في الكابتن بتاعه، مش عارف حتى يقول إيه. من ناحية، هو فاهم هما عملوا كده ليه. هما صدقوا إنك خنت الـ ١٤١، وحسوا بالغضب والزعل بسبب ده، فلجأوا إنهم يطلعوا غضبهم فيك. ومن الناحية التانية، كان لازم يشككوا في الأمور أكتر. انت جزء من الفرقة لسنين، بتحارب وتهزر جنبهم. دايمًا في ضهرهم وموجود لما بيحتاجوك. إشمعنى هتختار دلوقتي إنك تخونهم؟ بعد ما قعدت معاهم السنين دي كلها؟ الباقيين كان لازم يركنوا مشاعرهم على جنب ويفكروا في الموضوع بعقل أكتر بدل ما ينطوا على طول على تعذيبك.
      
      عنيه عدت على الباقيين، وهو بيشوف نظرات الندم واليأس اللي على وشهم. "كويس،" قال لنفسه، "خليهم يحسوا بالذنب على اللي عملوه فيك."
      
      من غير ما ينطق ولا كلمة، لف وخرج من الأوضة، والباب اترزع جامد وراه.
      
      

      روايه الجميله وراعي البقر

      الجميله وراعي البقر

      بقلم,

      تاريخية

      مجانا

      بنت اسمها نويمي، أبوها السكير والمفلس بيبيعها لراجل غريب عشان يسدد ديونه بعد الحرب. بتسافر معاه بالقطر لبلد جديدة في الغرب الأمريكي، وهناك بتقابل الراجل اللي اشتراها، "راعي بقر" وسيم وغامض اسمه ريفن بلاكستون. بتكتشف إن البيعة دي عبارة عن جوازة غصب عنها لازم تتم فوراً في الكنيسة. بعد مراسم باردة، بتسيب أبوها وتمشي مع جوزها الجديد لمصير مجهول. نويمي بتقرر إنها لازم تكون قوية وتنجو بحياتها الجديدة مهما كانت صعبة.

      نويمي

      رغم الظروف اللي هي فيها. أبوها "باعها" عشان يسدد ديونه. هي خايفة بس مصممة تكمّل وتعدي من الأزمة دي، وعندها كبرياء خلاها متخافش تواجه "ريفن".

      ريفن بلاكستون

      "راعي البقر" اللي اشترى نويمي. راجل وسيم بشكل قاسي، وشه مليان ندوب، وغامض جداً. باين عليه إنه مسيطر والناس بتخاف منه. بارد ومبيتكلمش كتير، لكنه أظهر جانب حنين لما هدأ نويمي وقت نوبة الهلع بتاعتها

      والد نويمي

      راجل سكير ومفلس رجع من الحرب. باع بنته مقابل الفلوس عشان يسدد ديونه. شخصية ضعيفة ومنهارة، وكل اللي همه الفلوس والويسكي.
      الجميله وراعي البقر
      صورة الكاتب

      نويمي
      
      القعقعة المنتظمة لقضبان القطار تتردد أصداؤها عبر المقعد الخشبي تحتي، اهتزاز ثابت يرتجف في عمودي الفقري ويصل إلى عظامي. الهواء داخل عربة القطار ثقيل بروائح أجساد لم تُغسل، وصوف رطب، وتبغ محروق لاذع، لكن كل ده مكنش مهم—طالما عيناي مُثبتتان على الدنيا التي تجري مسرعة خلف نافذة عربة الطعام.
      
      الزجاج بارد على أطراف أصابعي وأنا أضغط يدي عليه، أراقب المشهد المهزوز يتكشف مثل صفحات قصة لم أقرأها من قبل.
      
      السماء زرقاء باهتة، من النوع الذي يبدو وكأنه مشدود أكثر من اللازم، والأرض تحتها تمتد في موجات لا نهاية لها من العشب الذهبي، مرقطة ببقع من الخضرة العنيدة. ثم، يبطئ القطار مع اقترابه من منعطف، وتصبح الدنيا أوضح.
      
      أنفاسي اتحبست لما رأيت ما أمامي.
      
      هناك، على ضفاف النهر الأزرق الصغير، تقف ذئبة رمادية مع جرويها، فراؤهم الفضي يتموج في الريح، رطب وملتصق بالطين العالق ببطونهم. كانوا يمزقون البطون الطرية لسمك نفق على الشط، أسنانهم الصغيرة تنهش اللحم بشراهة وهو يلمع في ضوء آخر النهار.
      
      الذئبة الأم تقف فوقهم، عضلاتها مشدودة تحت فرائها، أذنيها منتصبة نحو القطار. عيناها الذهبيتان تلتفتان إلى النوافذ، إلى القطار المتباطئ، وتتثبت في عينيا لثانية وجيزة بينما تمر عربتي بجانبها. شعرت بشيء يقبض جوه صدري.
      
      كانت تراقبني حتى اختفت عن نظري. ليس خوفاً، ولا فضولاً، ولكن كتحذير.
      
      هي تعرف أن عليها إبقاء صغارها قريبين منها، لحمايتهم من الأخطار التي تتربص بهم داخل البرية وخارجها.
      
      حاجة كان نفسي حد يعملها علشاني.
      
      أطلق القطار صُفارة طويلة ومجوفة، تشق الهواء زي السكينة لتُعلمنا أننا على بعد أميال قليلة من وجهتنا، فرفعت الذئبة الأم رأسها أعلى، وفتحات أنفها اتسعت.
      
      هي عارفة الصوت ده معناه إيه. وإحنا معنانا إيه. دفعت جرويها أقرب إلى الغابة خلفها، بعيداً عن الضجيج، بعيداً عن السكة التي تفصل البرية عن البشر اللي مسميين نفسهم أسيادها.
      
      هنا، هي فريسة. مبقتش مفترسة.
      
      وإحنا اللي بقينا المفترسين.
      
      الفكرة جعلت معدتي تتقلب. أصابعي انكمشت على الزجاج. الذئبة لم تهرب. وقفت مكانها، متثبتة في الأرض، تحدق في الوحش الحديدي الذي يحملني بعيداً عن كل شيء عرفته يوماً. أتساءل إن كانت تشعر بنفس الشد في صدرها، نفس الوجع المتململ الذي يخبرها أن تهرب قبل فوات الأوان.
      
      ثم، بينما بدأت آخر عربة في القطار بالمرور، خفضت رأسها واختفت وسط العشب الطويل، وجرويها يتبعانها كالظلال. اللحظة راحت، ابتلعتها حركة القطار الأمامية التي لا ترحم، لكنها بقيت عالقة في عظامي.
      
      أتساءل إن كانت ستفكر بي الليلة تحت ضوء القمر، بنفس الطريقة التي أعرف أنني سأفكر بها.
      
      القطر اهتز وبطّأ سرعته، عجلاته الحديدية تصدر صريراً فوق القضبان، وأبي يتمايل على الشباك المقابل لي، رأسه تخبط خبطة مكتومة في الإزاز. تمتم بشيء غير مفهوم، كلماته متهدجة وضائعة وسط القعقعة المنتظمة لعربة القطار.
      
      ريحة الويسكي فايحة منه في موجات، تقيلة وتخنق، تقلب معدتي أسوأ من تأرجح القطر نفسه. أدرت وجهي نحو النافذة مرة أخرى، أبلع ريقي ضد الغثيان، لكن هذا لم يساعد. لا شيء يساعد.
      
      مبقتش عارفة عدى كام كاس شربه منذ صعودنا. يرفع قزازته بين المحطات، يعيد ملأها كلما وجد يداً أخرى مستعدة لتناوله زجاجة. لقد كان مخموراً منذ عودته من الحرب—راجل مهزوم لم يتبق له شيء سوى زجاجة في يد وديون في الإيد التانية.
      
      لكن المرة دي... الوضع أوحش.
      
      ربما العار هو الذي يغرقه الآن، يسحبه أعمق في الزجاجة، أو ربما هذا هو ما أصبح عليه.
      
      راجل أجوف باع بنته تمن لخطاياه.
      
      أمسك بالحافة البالية لمقعدي، أصابعي تغوص في الخشب المتشقق، بحاول أخلي إيديا تبطل تترعش.
      
      مش من الخوف.
      
      أبداً مش من الخوف.
      
      ولكن من تقل كل ده—تقل جسده المائل في غيبوبة ويسكي، وتقل القطار الذي يسحبني أبعد وأبعد عن كل ما عرفته في حياتي، وتقل ما ينتظرني في آخر السكة.
      
      في الخارج، المشهد سحابة ضباب، يجري في خطوط من الذهب والأخضر. ولّت تلك الأشجار الكثيفة الباكية وحرارة لويزيانا البطيئة التي تقطع النَفَس. لا مزيد من مياه المستنقعات تلطش على حواف الطرق المرصوفة بالطوب، لا مزيد من أشجار السرو الصلعاء تقف كحراس صامتين في الضباب.
      
      هذا المكان مختلف.
      
      مفتوح.
      
      واسع.
      
      الهوا هنا ممتد عبر تلال متدحرجة لا نهاية لها، السماء كبيرة وباهتة، كما لو أنها مُسحت من عليها الألوان. في الأفق، ترتفع قمم الأشجار كأسنان مسننة، قممها الخضراء تتلاشى في الضباب.
      
      أتساءل كيف سيكون الشعور لو تسلقت إلى قمة إحداها، ونظرت إلى العالم بالأسفل وشعرت بأنني صغيرة، بس حرة.
      
      داخل القطار، الدكك الخشب ناشفة تحتي، حوافها ناعمة من كتر استعمال المسافرين الذين سبقوني—أناس كان لديهم مكان يذهبون إليه، مكان يهربون إليه، مثلي تماماً. القطار يتأرجح، والأرضية تحت حذائي تهتز مع صوت 'تك-تك' القضبان الثابت، صوت أصبح مألوفاً أكثر من اللازم.
      
      يجب أن أكون خائفة. لكني لا أعرف إن كنت حتى أتذكر كيف يبدو هذا الشعور. لا يوجد سوى هذا التنميل الباهت، يتسلل كشبورة بطيئة، ينعّم حواف كل شيء قبل أن يجرح بعمق.
      
      ربما عقلي بيحمي نفسه. ربما يعرف أنه من الأفضل ألا يدعني أشعر بكل شيء مرة واحدة. العقل ده حاجة غريبة.
      
      أخرجت نفَساً، بطيئاً وثابتاً، ضاغطةً بظهري على مسند الدكة الصلب. لم يتبق لي شيء من أمي سوى الكتاب الذي أعطتني إياه—لا ممتلكات، لا رسائل، لا أثر لها سوى ما هو محفور جوه عضمي.
      
      بس لسه كلامها معايا.
      
      وأنا أتمسك به كما لو كان آخر شيء يبقيني واقفة على حيلي.
      
      اسمك نويمي هالي، وإنتي هتعدي من ده.
      
      لذا...
      
      اسمي نويمي هالي، وأنا هعدي من ده.
      
      أفكر في اليوم الذي كان أبي بيستعرضني فيه في ذلك البار المعتم المليان دخان في نيو أورلينز—الطريقة التي انحنى بها الرجال، ضحكهم التقيل بالويسكي، ابتساماتهم تلتوي كالنسور التي تحوم حول فريسة طازة. كيف رفع تلك اللوحة، يمررها من طاولة إلى أخرى، تاركاً عينيهم الجعانة تاكلني حتى قبل أن تفعل أيديهم ذلك.
      
      كنت شيء، صفقة، فرسة معروضة في مزاد. أصابعهم لمست ذراعي، خصري، شعري، يختبرونني، كما لو كان لهم الحق.
      
      لسه مش مصدقة إنه عملها. بس برضه، لأ، مصدقة.
      
      لقد خسر كل شيء—كبرياءه، حربه، وعقله. أنا كل اللي فاضل له عشان يتاجر بيه.
      
      القطر اتنتع، الوحش الحديدي يئن تحتنا بينما تصرخ العجلات على القضبان. اندفعت للأمام، ممسكة بالمقعد حتى لا أسقط في الممر.
      
      أبي بالكاد اتحرك، فقط تمتم بشيء تحت أنفاسه وترك رأسه يرجع لورا على النافذة الرطبة.
      
      ثم، صمت.
      
      الموتور طلع نَفَس طويل فيه صوت هسيس، وعرفت أننا وصلنا.
      
      رمشت بعيني، أجر نفسي من سحابة الذكريات، أصابعي متيبسة وهي تبتعد عن المقعد.
      
      إندبندنس، ميزوري. راح خلاص الحر المِعقَّد اللي بيخنق بتاع لويزيانا. مكان جديد، كابوس جديد.
      
      خارج النافذة، تمتد البلدة أمامي—كلها تراب، ودوشة، وتغلي بالحياة.
      
      رصيف القطار كان بحراً من الحركة من حيث أراقب عبر النافذة. رجال يرتدون برانيط عريضة ومعاطف عليها خطوط تراب بيتمطعوا بالقرب من المحطة، بعضهم يصرخ لبعضهم البعض فوق هسيس البخار، وآخرون يراقبون الركاب الوافدين بفضول باهت بينما ينتظرون في طابور للنزول من القطار. نساء يرتدين فساتين قطن باهتة يمسكن بأيدي أطفالهن، وجوههن مجهدة، وشعرهن مسحوب في كعكة مشدودة تحت قبعاتهن. أطفال بيجروا بين الصناديق والشنط، أقدامهم الحافية تطير التراب وهم ينسلون عبر الحشد.
      
      رجل مشمر دراعاته لحد كوعه يرمي شكاير تقيلة على عربة، صوت خبطة الغلال على الخشب بالكاد مسموع وسط جلبة الركاب المستعجلين الذين يحاولون النزول بسرعة. عربة حنطور تقف بالقرب من نهاية الرصيف، فريق خيولها يدب في الأرض بزهق، يهشون الذباب المتجمع في الحرارة بذيولهم. رائحة العرق، ورائحة التراب التي تسبق المطر، والروث تملأ الهواء، تختلط بالرائحة الحادة لدخان فحم الموتور الذي أجلس فيه.
      
      بلعت ريقي بصعوبة، أحاول استيعاب كل هذا، لكن الموضوع كان ضخم—أكبر من اللازم، أسرع من اللازم، وغير مألوف.
      
      الأرض تبدو أوسع هنا، تمتد في كل اتجاه، جامحة ومفيش ليها آخر.
      
      مفيش مكان أستخبى فيه.
      
      باب القطار انفتح بصوت صرير، وبدأ الركاب يجروا رجليهم للخارج، أحذيتهم تحتك بألواح الرصيف الخشبية البالية. لم أتحرك. لسه شوية. أبي تحرك أمامي، يفرك وجهه، لكني بالكاد لاحظته.
      
      بدلاً من ذلك، ضغطت بكف إيدي على الشباك، أشعر بالزجاج البارد تحت أطراف أصابعي، نبضي ثابت وبطيء. ها هي. نهاية قفص وبداية قفص تاني.
      
      اسمي نويمي هالي، وأنا هعدي من ده.
      
      تبعت أبي وهو بيترنح وهو قايم من مكانه عندما خفت الطوابير عند كلا الطرفين، مشيته مش متزنة وبيطوح وهو يشق طريقه نحو المخرج.
      
      الرصيف كان مليان دوشة—أناس يصرخون، قعقعة معدنية للشنط وهي تُسحب من القطار، صهيل الخيول المتململ المربوطة قريبة جداً من بعضها—لكن كل هذا بدا بعيداً، مكتوماً، كما لو كنت بتفرج عليها من ورا لوح إزاز تخين.
      
      يداي تشتدان حول أحزمة الحقيبتين الصغيرتين اللتين أحملهما، عقل صوابعي وجعاني من شدة قبضتي عليهما. أركز على الوزن، الضغط، أي شيء ليبقيني ثابتة.
      
      وبعدين شفته.
      
      كان يقف عند طرف الرصيف، بعيد عن الفوضى دي، طويل وثابت، كما لو أن العالم من حوله لا يلمسه بالطريقة التي يلمس بها أي شخص آخر. آخر شعاع شمس قبل ما تمطر يقطع وجهه تحت حافة قبعة رعاة البقر السوداء المليئة بالتراب، ينعكس في عينيه الرمادي الغامق اللي زي لون العاصفة. كانت عيناه تتنقلان فوق الركاب الوافدين، بلا اهتمام، بانفصال.
      
      لحد... ما جت عليا.
      
      للحظة، نسيت أتنفس.
      
      وجهه كان كله زوايا حادة وملامح خشنة، فك قوي يؤدي إلى رقبة تحمل ندوباً قديمة—ندوب تمتد من تحت خط فكه، تختفي تحت ياقة معطفه المتهالك. كانت مشرشرة، ومش متساوية، من النوع الذي تتركه المعارك والزمن.
      
      لم أرها من قبل، ليس في النور الخافت بتاع البار في لويزيانا عندما كان يربط قناعاً على فكه، مخبيها عن الأنظار. لكن هنا، تحت السماء المظلمة، كان مستحيل تجاهلها.
      
      حتى مع وجودها—أو ربما بسببها—كان أكتر راجل وسيم بشكل مدمر شوفته في حياتي.
      
      شعره، بني غامق ومموج، يلف قليلاً حيث بيطل من تحت قبعته، الهوا بعتره وهو يحمل رائحة الخيول والتراب عبر المحطة.
      
      كان هناك شيء في الطريقة التي يقف بها، شيء خطير، ولكن ليس بالطريقة التي كان عليها الرجال في بلدي. مش بالطريقة اللي بتخليني أقشعر.
      
      لأ، ده مختلف.
      
      هذا رجل لا يحتاج أن يرفع صوته لكي يسيطر على أوضة، لا يحتاج أن يمد إيده على مسدسه عشان الناس تخاف منه. إنه رجل يحمل سمعته في وقفته، في الثقة الهادئة التي لا تهتز لشخص عدى من حاجات أسوأ من اللي الناس بتتهامس عليها.
      
      
      
      
      
      
      ودلوقتي، هو بيبصلي.
      
      تقل نظرته بعت قشعريرة حادة في ضهري، تحذير، وسؤال. المفروض أشيح بنظري بعيد، بس معملتش كده. مقدرتش.
      
      لأني إزاي معرفش، عارفة—إن ده الراجل اللي اتبعتله. أنا عارفة العيون دي. دي العيون اللي بصت جوه روحي وشافت حاجة تستاهل تتشرى.
      
      هو متحركش وإحنا بنقرب، مغيَّرش وقفته ولا رفع قبعته للتحية. هو بس بيتفرج، بعيونه الرمادية الباردة دي علينا، ومحدش يقدر يقراها.
      
      قلبي اتخبط في صدري، دقة حادة ومش منتظمة، واضطريت أفكر نفسي أتنفس—أفكر نفسي إن ده حقيقي.
      
      أنا مش هخاف.
      
      أنا هعدي من ده.
      
      اسمي نويمي هالي.
      
      "خمسة آلاف،" أبويا قالها بلسان تقيل، وهو بيشاور بإيده بكسل في الهوا وإحنا بنقف عند طرف الرصيف الخشبي.
      
      نظرة الراجل اتنقلت ليا، ببطء وتقييم، وفجأة حسيت إني قليلة أوي. مش زي ما حسيت زمان في نيو أورلينز، لما الرجالة كانوا بيبصولي كأني حاجة تتاخد، تتقلب، تتمتلك. ده مختلف. عينيه مش بتبص ببجاحة—دي بتوزن، بتضغط عليا زي قوة من قوى الطبيعة، زي الهوا التقيل قبل ما العاصفة تهب.
      
      "ده كان الاتفاق،" قال كده، صوته واطي وثابت، من النوع اللي يستقر جوه الصدر زي حاجة مابتتهزش.
      
      ده بعت فيا رعشة، مش من الخوف، ولا من القرف—من حاجة تانية خالص. حاجة مفيش ليها اسم عندي.
      
      أجبرت نفسي أرفع وشي، أقابل نظرته عين في عين.
      
      عينيه كانت زي الهدوء اللي قبل العاصفة—سحب رعد مستنية تمطر، غامقة وملهاش آخر، وللحظة، حسيت إني بغرق، بتسحب لتحت بتيار مقدرش أقاومه. هو وسيم، بس مش بطريقة تخليك تطمن. فيه حاجة خشنة فيه، حاجة مش متساوية، كأنه اتنحت من الصخر واتساب في الهوا يعتق. بس فيه حاجة تانية كمان—حاجة مكسورة. حاجة تخليني عايزة أبص بعيد، حتى وإنا بجبر نفسي معملش كده.
      
      "أيوة،" أبويا تمتم، وهو بيفوق وبيتلفت، عقله خلاص راح للكاس اللي جاي. "هي بتاعتك أول ما آخد الفلوس."
      
      راعي البقر هز راسه، مرة واحدة بس. "تعالي معايا،" قالها، صوته مبيسمحش بأي نقاش. بعدين لف ومشي، حتى مكلفش نفسه يشوف أنا وأبويا ماشيين وراه ولا لأ.
      
      فضلت واقفة مكاني، رجليا تقيلة على ألواح الرصيف البالية، الخشب تحتي لسه بيترعش من تقل القطر.
      
      أهي دي.
      
      أهي دي حياتي دلوقتي.
      
      بصيت ورايا على أبويا، بدور على—إيه؟ لحظة تردد؟ إنه يفكر تاني؟ بس هو حتى مستخسرش فيا دي. كان خلاص بيترنح ورا اللي اشتراني، خلاص بيمد إيده على تمنه، خلاص بينساني. الغصة اللي في زوري زادت، ناشفة ومبتروحش، بس بلعتها. مفيش حاجة فاضلالي في نيو أورلينز. مفيش غير الوجع. مفيش غير وعود مكسورة.
      
      خدت نفس بطيء، فردت كتافي، ونزلت من على الرصيف.
      
      راعي البقر مشي قدامي بخطوات واسعة وليها هدف، معطفه بيتحرك مع كل خطوة. جزمته بتخبط في الأرض بثقة راجل متعود الناس تمشي وراه، متعود يتطاع، متعود يأمر.
      
      أبويا كان ماشي جنبه، مع إن خطواته كانت أقل ثبات، بيطوح شوية مع كل حركة. وأنا؟ كنت بجر نفسي وراهم، خطواتي سريعة أوي، ومش منتظمة، وأنا بحاول ألاحق خطوة راجلين خلاص قرروا مصيري.
      
      مسكت شنطي جامد أوي، حياتي كلها في الشنطتين الصغيرين دول، وزنهم تافه جنب الحقيقة الأتقل اللي ضاغطة عليا.
      
      حقيقة إني ماشية في اتجاه مستقبل مختارتوش.
      
      مستقبل ملك لراجل حتى معرفش اسمه.
      
      خلاص، هيفضل راعي بقر لحد ما يحس إنه عايز يعرف نفسه. راعي البقر... بتاعي، غالباً.
      
      بلدة إندبندنس بانت قدامي، مفرودة ومتململة، بعيدة كل البعد عن سكون بيتي الرطب.
      
      الشوارع كانت زحمة حركة، لخبطة متشابكة من الناس والحيوانات، عربيات كارو وعربيات بحصنة، أصوات بتزعق تعلى على بعض. فريق خيول عدى بيجرجر، حوافرهم بتطير التراب في سحب تقيلة وبتدور، دخلت في زوري. ست واقفة جنب فرشة السوق، شايلة ابنها على وسطها وهي بتفاصل مع بياع بيبيع فروع لافندر ناشفة. قريب منهم، مجموعة رجالة مأنتخين جنب ورشة الحداد، بيمسحوا العرق من على وشهم وهما بيتكلموا بصوت واطي، عينيهم بتيجي على راعي البقر اللي قدامي—وبعدين يبصوا بعيد بسرعة.
      
      لاحظت وقتها، إزاي الزحمة بتتغير حواليه، إزاي الناس بتوسعله من غير ما يطلب. شوية بيبصوا لفوق، فضول بيلمع في ملامحهم قبل ما يبصوا بعيد، كأن مجرد النظرة في عينه ممكن تحرقهم. وناس تانية مبتاخدش الريسك ده أصلاً، بيفضلوا موطيين راسهم، انتباههم متركز في أي حتة تانية غير عليه.
      
      وبرضو، هو مبطأش.
      
      أجبرت نفسي أفضل ماشية، بزاوغ بين الناس، بتفادى البراميل والصناديق وكيمان روث الخيل اللي سايبها مرور اليوم. إندبندنس مفيهاش أي حاجة من بيتي. حاساها أكبر. أدوش. أقسى. مفيش شجر سرو هنا، مفيش غطا تقيل من الرطوبة بيضغط على جلدي. مجرد حر ناشف، وتراب، وإحساس طاغي إني مش تبع المكان ده.
      
      تقل الحقيقة دي استقر جوه صدري. صوابعي قفشت على سيور شنطي، وعقل صوابعي وجعتني.
      
      أنا لوحدي بجد.
      
      الفكرة خبطت فيا، حاجة مفاجئة وساحقة، ولثانية واحدة يائسة، كنت عايزة أجري. ألف وأرجع، ألاقي القطر، أهرب قبل ما يفوت الأوان.
      
      بس الأوان فات خلاص.
      
      عشان أبويا مبصش وراه.
      
      عشان راعي البقر فضل ماشي.
      
      عشان مفيش مكان تاني أروحه.
      
      فأجبرت رجليا تتحرك، خطوة ورا التانية، ماشية ورا اللي اشتراني واللي باعني في اتجاه عربية مستنية في آخر الشارع الزحمة.
      
      لما وصلنا للعربية، الراجل اللي بيشع خطر ده لفلي وهو بيفتح الباب. ملامحه متتقريش، عيونه الرمادي متتقريش، وحتى معزمنيش أطلع. متكلمش. هو بس اتفرج عليا—مستني.
      
      اترددت، صوابعي بتقفش على سيور شنطي. نفسي اتحبس في زوري، غصة اتكونت مش عارفة أبلعها. معرفش المفروض أعمل إيه—أستنى أوامر، أطلب إجابة، أجري؟ بس بعدين، لمحتها—لمعة نفاد الصبر في عينيه، حادة وعدت بسرعة. رجليا اتحركت قبل ما أفكر أحسن.
      
      اتسلقت عشان أطلع العربية، كفوفي اتزحلقت على الإطار الخشب الخشن وأنا قربت أفقد توازني. المقعد كان ناشف تحتي، وقعدت مفردوة ضهري أوي، نبضي بيدق جوه ضلوعي.
      
      أنا مش تبع هنا.
      
      أبويا طلع ورايا، اتسلق بتردد أقل بكتير. اتنهد وهو بيستقر على المقعد المنجد اللي قصادي، رزمة فلوس في إيده. صوابعه قفشت عليها كأنها طوق نجاة، كأن تقل الورق ده أهم من تقل اللي هو عمله.
      
      راعي البقر اتحرك بسلاسة، قفل الباب وراه قبل ما ينط على قدام العربية كأنه عملها ألف مرة قبل كده.
      
      بإيد واحدة، أبويا مد إيده في صديريته وطلع قزازة جلد سودة، فك غطاها بصباعه قبل ما ياخد شفة بطيئة ومقصودة. عروق رقبته اتحركت وهو بيشرب، إيده التانية ماسكة رزمة ورق فلوس—خمسة آلاف دولار.
      
      نص التمن اللي قاله.
      
      التمن اللي التانيين مجرؤوش يدفعوه.
      
      "المراسم هتبقى إمتى؟" صوت أبويا وصل من الشباك الصغير اللي بينا، واطي وثابت، كأنه عارف الإجابة خلاص.
      
      قصادي، هو لحس شفايفه، ريقه بيجري على منظر الفلوس. "القسيس مستنينا في الكنيسة،" راعي البقر رد، يادوب اتكلم قبل ما اللجام يطرقع في إيديه والعربية تندفع لقدام.
      
      الكلام خبطني زي قلم على وشي ورصاصة في بطني.
      
      كنيسة.
      
      قسيس.
      
      جواز.
      
      لأ.
      
      لأ، لأ، لأ.
      
      جسمي اتصرف قبل ما عقلي يستوعب. إيديا اتمدت على باب العربية، صوابعي بتشد، بتخربش في الأوكرة وأنا بزق فيه. مش عايز يفتح بسرعة، مش عايز يخليني أخرج قبل ما الهوا في العربية يقفل عليا.
      
      هوا.
      
      أنا محتاجة هوا.
      
      المكان ضيق أوي، صغير أوي، قريب أوي—أبويا قصادي، وراجل غريب سايق، ومعلومة إني بتاخد، إني خلاص اتاخدت، ضاغطة عليا زي تقل سحق.
      
      شديت أقوى، الباب أخيراً فتح، وكنت هقع من العربية وهي ماشية، سندت على إيديا وأنا بخبط في الأرض.
      
      الخبطة لسعت، جلدي اتسلخ على تراب الطريق الناشف. قومت وقفت على رجلي وأنا بطوح، كل عصب في جسمي بيصرخ فيا أجري، أجري، أجري.
      
      الكلام مش راضي يسكت في دماغي.
      
      قسيس مستني.
      
      مراسم.
      
      جواز.
      
      ده مش حقيقي. مستحيل يكون حقيقي.
      
      الرؤية غبشت على الأطراف، رئتي بتقفش، صدري بيعلى ويوطى بسرعة أوي، مش منتظم. إيديا بتترعش على ركبي وأنا موطية لقدام، بحاول أدخل الهوا لجسمي تاني مع كل شهقة. بس الهوا مش راضي يدخل.
      
      غمضت عيني جامد.
      
      مش قادرة أتنفس.
      
      صوت جزم بتخبط على التراب بالكاد سجلته وسط رعبي، بس بعدين—إيد. دافية وثابتة، بتضغط برفق على ضهري، بتمسح بحركات دائرية بطيئة. لمسة مش خشنة، مش غصب.
      
      
      
      
      
      
      
      
      ...مجرد... هناك.
      
      أنتفض مبتعدة عنها في الحال. جسدي يتحرك قبل أن أفكر، أتعثر للخلف بينما نظري يرتفع فجأة، صدري ما زال يعلو ويهبط، ويداي مقبوضتان. وها هو ذا.
      
      راعي البقر.
      
      راعي البقر الخاص بي.
      
      هو لا يتحرك، لم يمد يده إلي مرة أخرى. هو ببساطة يراقب، عيناه الرماديتان كالعاصفة ثابتتان، لا تتزحزحان.
      
      "للداخل من أنفك،" قال، آخذاً نفساً عميقاً وحابساً إياه. انتظر. يراقب. يتوقع.
      
      ترددت، جسدي ما زال حبيس الذعر، لكن شيئاً ما في الطريقة التي يتحدث بها—الثقة الهادئة في صوته—جعلتني أستمع.
      
      استنشقت بحدة من أنفي، أحاول حبسه كما يفعل، لكن أنفاسي ارتجفت في صدري، ضلوعي تؤلمني من شدة دقات قلبي.
      
      "للخارج من فمك." زفر ببطء، شفتاه تنفرجان بما يكفي لخروج النَفَس. عيناه لم تترك عيني أبداً. "ركزي على دقات قلبك،" قال، بهدوء ولكن بحزم. "اشعري بها في صدرك. وأجبريها أن تبطئ."
      
      بلعت ريقي بصعوبة. يداي ما زالتا ترتعشان، رأسي ما زال يدور، لكني أومأت.
      
      نَفَس آخر للداخل. أبطأ هذه المرة.
      
      آخر للخارج.
      
      وببطء، بدأ الثقل يرتفع.
      
      أراقبه وأنا أتنفس، أراقبه وهو يراقبني. لم يستعجلني، لم يضغط. فقط انتظر، كما لو أن لديه كل الوقت في العالم.
      
      "خذي وقتك كما تحتاجين،" تمتم، ولا أعرف لماذا، لكني أستمع إليه.
      
      أومأت مرة أخرى، وآخر نَفَس عميق يملأ رئتي. الغثيان في معدتي هدأ، وعندما وجدت صوتي أخيراً، كان بالكاد أعلى من الهمس.
      
      "مرحباً، يا راعي البقر؟"
      
      انعقد حاجبه قليلاً عند سماع الاسم، شفتاه ارتعشتا عند الزوايا. "راعي البقر؟"
      
      "حسناً،" قلت، مخرجة آخر ما تبقى من ذعري، "أنا لا أعرف اسمك. لذا، 'راعي البقر' سيفي بالغرض حتى تشعر بأنك 'رجل نبيل' بما يكفي لتقدم نفسك."
      
      تلك الارتعاشة كادت أن تتحول إلى شيء أكثر. شبه ابتسامة، سريعة وعابرة، سريعة لدرجة أنني كدت ألا أراها.
      
      وهكذا، اختفت، متلاشية بينما يدس يديه في جيوب معطفه ويستدير عائداً نحو العربة.
      
      توقف عند المقدمة، متوقفاً بما يكفي ليقابل نظرتي مرة أخرى.
      
      "ريفن بلاكستون،" قال. "لكن 'راعي البقر' سيفي بالغرض."
      
      ريفن بلاكستون.
      
      ريفن بلاكستون.
      
      ثم سحب نفسه إلى مقعد السائق، وتحركنا مرة أخرى عندما أجبرت ساقاي على الصعود مجدداً إلى العربة.
      
      ريفن طرقع باللجام عندما أصبحت بالداخل، واندفعت الخيول للأمام، تسحبنا بعيداً عن المحطة وإلى قلب إندبندنس.
      
      العربة تهتز تحتي، تترجرج مع كل حفرة غير مستوية في الطريق الترابي، العجلات تصر احتجاجاً. أصوات المحطة—الصياح، قعقعة الأمتعة، صفارة القطار المغادر—تتلاشى خلفنا، يبتلعها همهمة البلدة المتنامية.
      
      إندبندنس حية بطريقة لم تكن عليها نيو أورلينز أبداً.
      
      الشوارع فوضى متشابكة من الحركة، أناس وعربات ينسلون بين بعضهم البعض في رقصة غير معلنة تبدو على بعد خطوة واحدة خاطئة من الفوضى. الهواء كثيف بالغبار، الذي تثيره الحركة المستمرة للحوافر وعجلات العربات، رائحة الخيول، التبغ، وشيء يُقلى على نار مكشوفة تختلط معاً.
      
      نساء بقبعات باهتة يمشين على الأرصفة الخشبية، تنانيرهن تحتك بالخشب وهن يحملن سلالاً من البضائع الجافة والقماش. رجل يقف خارج صالون حلاقة، يميل قبعته للخلف وهو يدخن غليوناً، يراقب تدفق الحركة بلا مبالاة. مطرقة حداد ترن في دقات ثابتة وموزونة، مرسلة شرارات تتطاير في الضوء الخافت. بالقرب، يركض أطفال بين الصناديق المكدسة خارج المتجر العام، أقدامهم الحافية تثير الغبار وهم يضحكون ويطاردون بعضهم البعض في الشارع.
      
      من خلال العربات المارة والفرسان على ظهور الخيل، أختلس النظر إلى مؤخرة قبعة ريفن، محاولة فهم الرجل الذي يسيطر الآن على مصيري. جسده يغطيه السواد، وقفته متيبسة، كتفاه العريضان مستقيمان بطريقة تدل على العادة، وليس التفكير—كأنه تعلم ألا يسمح لنفسه أبداً بأن يكون أي شيء سوى منغلق. لا يكشف عن أي شيء.
      
      الندوب التي تشق طريقها أسفل رقبته، مختفية تحت ياقة قميصه الأسود، لها قصتها الخاصة. قصة لا أعرف إن كنت أريد سماعها. قصة لا أعرف إن كان سيرغب يوماً في روايتها.
      
      الثقل في صدري يشتد، شيء بارد يلتف في أعماق بطني، لكني أدفعه. أجد صوتي، رغم أنه يخرج أهدأ مما قصدت.
      
      "هل ستزورني، يا أبي؟"
      
      أبي بالكاد يتفاعل. ضحك بخفوت تحت أنفاسه، يقلب نقوده مرة أخرى، يسوي الأوراق النقدية كأنها أثمن شيء حمله في حياته. لست أنا. أبداً لست أنا.
      
      "عشرة آلاف،" تمتم، وهو يعدها للمرة الثالثة. "عشرة آلاف لعينة."
      
      "يا أبي؟" صوتي يرتجف، ليست النبرة الواثقة التي قصدت استخدامها. خرجت كأنين.
      
      لا أعرف لماذا أسأل. لا أعرف لماذا أتوسل.
      
      لقد كان أباً فظيعاً عندما تجاهلني، وعندما كان ينتبه، كان أسوأ. أسوأ بكثير.
      
      رعشة تسري في عمودي الفقري، ذكرى تشق طريقها إلى السطح، ذكرى أدفنها مرة أخرى قبل أن تتمكن من التجذر.
      
      ربما أنظر إلى كل هذا بشكل خاطئ. ربما هذا ليس كابوساً على الإطلاق.
      
      ربما بيعي لغريب هو حلم متنكر. حلم إذا جعلته كذلك.
      
      تغوص الشمس أكثر، تسكب الذهب فوق أسطح المنازل، ترسم ظلالاً طويلة على الأرض. يصبح الهواء أبرد، أثقل، وأفقد نفسي في إيقاع العجلات، الخبط الثابت للحوافر، المسار البطيء المتعرج عبر الشوارع.
      
      ثم، فجأة، نتوقف.
      
      التوقف المفاجئ يرسلني مندفعاً للأمام، راحتا يدي تصطدمان بحجري بينما أحاول إمساك نفسي. باب العربة يُفتح، وريفن هناك، يقف في ضوء الشمس المتلاشي.
      
      تنتقل عيناه إلى أبي أولاً، وشيء يمر على وجهه—ومضة من الاشمئزاز، الغضب، سريعة لدرجة أنها اختفت قبل أن أتمكن من التأكد من أنها كانت موجودة أصلاً. ثم تستقر نظرته علي، وللحظة، لا أستطيع التنفس.
      
      "هل ترغبين في التوقف عند الخياطة من أجل فستان،" يسأل، صوته ثابت، عيناه الرماديتان لا يمكن قراءتهما، "أم أنك راضية بملابسك؟"
      
      ألقي نظرة على فستاني—مجعد، باهت، مغبر، تذكير بالماضي الذي أُنتزع منه. ماضٍ لا أعرف إن كان يجب أن أتمسك به أم أتركه يموت.
      
      صوته موزون، ثابت—ولكن ليس لطيفاً. لا يوجد فيه سخرية، لا رقة، مجرد سؤال بسيط، قرار عملي.
      
      راعي البقر ذو الندوب الذي اشتراني للتو يعطيني خياراً.
      
      اعتقدت أن حقي الإنساني في الاختيار قد أُلقي به من نافذة القطار من نيو أورلينز إلى سانت لويس.
      
      أهز رأسي. "لا، يا راعي البقر. سأ—"
      
      لكن ريفن كان يستدير مبتعداً بالفعل، يخطو بالفعل نحو أبواب الكنيسة الطويلة، ساقاه الطويلتان تلتهمان المسافة كما لو كان مستعجلاً لإنهاء هذا الأمر.
      
      "القسيس من هذا الطريق."
      
      أدير عيني نحو ظهره، وأنا أعلم جيداً أنه لا يهتم إن فعلت. ثم، أتبعه.
      
      الكنيسة مذهلة، غارقة في آخر درجات ألوان الشمس الدافئة المتسربة عبر الأبواب الزجاجية الملونة، تضيء الألوان الزاهية للقديسين والشهداء كنار مقدسة. الجدران مبطنة بنقوش معقدة لملائكة ونبوءات، المقاعد الخشبية مصقولة بفعل الزمن، صفوف فوق صفوف تؤدي إلى منبر رخامي فخم. خلفه، يلوح أرغن ذو أنابيب ضخم، وجوده مهيب وجميل في آن واحد.
      
      راهبات يتحركن في المكان، بعضهن يركعن أمام نقوش حجرية للإله والسيدة العذراء، أيديهن مشبوكة في صلاة، ورؤوسهن منحنية. أخريات يحملن أغطية، يرتبن الشموع، يتهامسن بعبادتهن لإله تخلى عني منذ زمن طويل.
      
      صوت جزمة ريفن يتردد صداه على الأرضية الحجرية، وأجبر نفسي على اتباعه، حتى بينما ترتجف ساقاي تحتي.
      
      أبي يتعثر خلفي، ما زال متمسكاً بالشيء الوحيد الذي كان يهمه يوماً—نقوده.
      
      عند المنبر، يظهر القسيس. أثوابه بيضاء، مطرزة بالذهب، شعره رمادي وخفيف، وعيناه البنيتان لطيفتان، ولكنهما ثقيلتان—كما لو أنه رأى الكثير من حفلات الزفاف التي ما كان يجب أن تحدث.
      
      "أهلاً بكما،" يقول، صوته هادئ. "هل أنت مستعد للبدء، يا سيد بلاكستون؟"
      
      ريفن يومئ. بحزم. بشكل نهائي.
      
      أبي يتمايل على قدميه، عيناه المحتقنتان بالدم بالكاد تسجلان اللحظة قبل أن يومئ هو الآخر، موافقاً بغباء على كل ما سيأتي.
      
      أستنشق بحدة، صدري ضيق جداً، نبضي عالٍ جداً.
      
      وبعد ذلك، أومأت.
      
      لا عودة الآن.
      
      كلمات المراسم تغمرني، لكني لا أسمعها. أنا غارقة في ذكريات أمي، في الطريقة التي كانت تحتضنني بها، كيف كانت رائحتها تشبه الورود والكتان النظيف، كيف ما كانت لتسمح أبداً بحدوث هذا لو كانت على قيد الحياة.
      
      صوت القسيس يسحبني مرة أخرى.
      
      "هل تقبلين بهذا الرجل زوجاً شرعياً لك، ليكون لك وتحافظي عليه، من هذا اليوم فصاعداً، في السراء والضراء، في الغنى والفقر، في المرض والصحة، لتحبي وتعتزي به، حتى يفرقكما الموت؟"
      
      لا أستطيع التنفس.
      
      أبي حتى لا يرفع نظره. لا يهتم.
      
      ألتقي بنظرة ريفن، ولأقصر لحظة، أرى شيئاً هناك.
      
      ندم؟ شفقة؟
      
      تلاشت بالسرعة التي ظهرت بها.
      
      "أقبل،" أهمس، صوتي بالكاد مسموع، ولكنه نهائي بطريقة ما.
      
      يلتفت القسيس إلى ريفن، تعابيره رسمية. "هل تقبل بهذه المرأة زوجة شرعية لك، لتكون لك وتحافظ عليها، من هذا اليوم فصاعداً، في السراء والضراء، في الغنى والفقر، في المرض والصحة، لتحب وتعتز بها، حتى يفرقكما الموت؟"
      
      جاء رد ريفن فورياً، بلا عاطفة.
      
      "أقبل." صوته منخفض، ثابت، ولم يكن هناك أي تردد. كانت عبارة بسيطة، لكنها تحمل ثقل الحتمية، وكأنه قد قبل هذا المصير قبل وقت طويل من أن أعرف أنه قادم.
      
      وبعد ذلك—
      
      يومئ القسيس، مغلقاً الكتاب ورافعاً يديه للمباركة. "بالسلطة المخولة لي من الكنيسة وولاية ميزوري، أعلنكما الآن زوجاً وزوجة. يمكنك تقبيل العروس."
      
      صمت.
      
      ريفن لا يتحرك. لا يلمسني.
      
      يحدق بي للحظة طويلة، ثم يستدير على كعبه ويمشي مبتعداً.
      
      وهكذا، أنا متزوجة.
      
      متزوجة، ولكن لم أُقبَّل عند المذبح.
      
      متزوجة، ولكن لم يُطلب يدي للزواج أبداً.
      
      متزوجة، ولكن لم يُقل لي 'أحبك' أبداً.
      
      في الخارج، بدأت الشمس في الغروب، وأصبح الهواء أبرد، أثقل. العربة تنتظرنا حيث تركناها، الخيول تدب بأقدامها بنفاد صبر.
      
      ريفن يساعدني على الصعود هذه المرة، لكنه لا يتكلم.
      
      هو ببساطة يصعد إلى مقعده، يمسك باللجام، وبدون كلمة، نمضي.
      
      بعيداً عن الكنيسة. بعيداً عن كل شيء.
      
      نترك أبي في المحطة، لكني أعرف—شبحُه سيطاردني أطول مما فعل وجوده.
      
      بينما تختفي البلدة خلفنا، تبتلعها التلال المظلمة والغابات الكثيفة، أدرك شيئاً واحداً.
      
      لا عودة للوراء.
      
      الطريق أمامنا طويل، متعرج، وغير مؤكد.
      
      وفي نهايته، ينتظرني في الظلال، راعي البقر الوسيم ذو الملامح الخشنة المسمى ريفن بلاكستون.
      
      اسمي نويمي هالي، وأنا سأنجو من هذا.
      
      تصحيح.
      
      اسمي نويمي بلاكستون، وأنا سأنجو من هذا.
      
      

      قصه ألفا - فانتازيا

      ألفا

      بقلم,

      فانتازيا

      مجانا

      بنت بتصحى من النوم تلاقي نفسها متكتفة في قصر فخم وسط ناس غريبة. بتكتشف إنها مبقتش إنسانة وإنها اتحولت لمستذئبة من فصيلة نادرة اسمها "إبسيلون". قائد القطيع، "ألفا أزريل"، شايف إنها الأمل الوحيد ليهم، بس دراعه اليمين عايز يقتلها. بيقولولها إن أهلها نسيوها تماماً بسبب لعنة التحول. البطلة بترفض تصدق كل ده وبتقرر تهرب منهم في الغابة عشان تلاقي الحقيقة.

      كايرا

      شابة عادية بتكتشف فجأة إنها بقت مستذئبة نادرة (إبسيلون). هي مرعوبة وتايهة، بس في نفس الوقت دماغها ناشفة وعنيدة ومصممة ترجع لحياتها القديمة.

      ألفا أزريل

      قائد القطيع (ألفا البلاط الجنوبي). راجل غامض، هادي جداً، وليه هيبة وسلطة مطلقة على كل اللي حواليه. هو مقتنع إن كايرا هي "الأمل" اللي هينقذ شعبه.

      زايون

      دراع أزريل اليمين وصاحبه. شخص عصبي جداً ومتسرع، وشايف إن كايرا (عشان هي إبسيلون) خطر كبير عليهم ولازم يخلصوا منها فوراً.
      قصه ألفا - فانتازيا
      صورة الكاتب

      مكنتش بآمن بوجود الوحوش، لحد ما بقيت واحده منهم.
      
      لسعة المعدن الباردة حوالين معاصمي هي أول حاجة لاحظتها لما صحيت. جسمي متخشب وتقيل، وبيوجعني بطرق أنا مش فاهماها. كل نَفَس بحس كأنه بيبعدني أكتر عن النوم ويغرقني أكتر في واقع مش قادرة أستوعبه.
      
      السرير اللي تحتي فخم زيادة عن اللزوم. بروازه من خشب الماهوجني اللامع محوطه زي النعش، لونه غني وغامق، والملايات تحتي ناعمة، ومفرودة، ونضيفة أوي. أنا مش عارفة المكان ده خالص.
      
      سنان. دم. عدوى بتحرق. ومضات ذكريات بتخبط في دماغي من غير سياق أو وضوح. مفيش حاجة منطقية. الدنيا بتلف بيا في دوخة غريبة ودايخة.
      
      وفي قلب كل ده—ومثبتني في اللحظة اللي مش حقيقية دي—الراجل اللي موطي عليا. أول واحد أشوفه أول ما أصحى.
      
      شعره نازل زي الحرير الأسود، مبروز وش مثالي لدرجة تحسسك إنه مش حقيقي. وشه باهت وأنيق، بس ملامحه حادة—عضم خدوده راسم ضلال على وشه ومناخيره مستقيمة أوي لدرجة تخليها مش بشرية. بس عينيه هي اللي شدتني. لونها أزرق غامق زي الياقوت. بيبصلي بقلق هادي.
      
      تحت هدوءه ده فيه حاجة خطيرة. حاجة بتخلي جسمي يقشعر وقلبي عمال يخبط في ضلوعي جامد.
      
      "أهلاً يا عزيزتي"، قالها وصوته قطع الوش الباهت اللي في وداني. "إنتي حاسة إنك كويسة؟"
      
      مردتش. مش عشان مش قادرة—بس عشان وداني لقطت حوار داير في حتة تانية في الأوضة.
      
      "—إنت اتجننت؟ إزاي نحتفظ بإبسيلون؟ إنت عارف دول خطر قد إيه؟ فيه سبب خلاهم يتمنعوا!"
      
      غصبت على نفسي ألف راسي، وكل عضلة فيا بتقاوم. الارتباك مسكني وأنا بتبع الصوت لراجل شعره كستنائي وطويل، وتعبيراته كلها نار وحركة. بس هو مكنش بيكلم بني آدم. ده كان بيكلم واحد من الكلاب اللي شبه الديابة الضخمة اللي واقفة مصطفة جنب الحيطة زي الحرس.
      
      إيه الجنان ده؟
      
      "يا عزيزتي"، الراجل اللي فوقي—ولسه قريب مني—قال تاني. "ممكن تقوليلي اسمك إيه؟"
      
      كنت مسحورة أوي بالمنظر العجيب اللي قدامي، فطنشته.
      
      "إحنا محتاجين ورقة الضغط دي يا زايون"، صوت ست هادي بيرد. أنا مش شايفة الصوت ده جاي منين. "إحنا يا دوب ماشيين جنب المناطق التانية. دي ممكن تكون فرصتنا الوحيدة عشان نبني نفسنا من تاني."
      
      الراجل أبو شعر كستنائي—زايون—برق لها. "وإيه أخبار ميثاق المستذئبين يا يوكي؟ مش شايفة إننا لو كسرناه ممكن نعمل شوية قلق؟"
      
      أنا أكيد بتجنن، عشان أنا ممكن أحلف إن واحد من الديابة اللي فروتها رمادي اتنهدت—اتنهدت بجد—وهزت راسها زي ما يكون أب تعبان. وبعدين، اتكلمت.
      
      "إحنا ماشيين على ميثاق المستذئبين بقالنا سنين. وشوفوا ده وصلنا لفين—"
      
      "هو الكلب ده اتكلم؟"
      
      كل اللي في الأوضة بصلي في لحظة واحدة.
      
      المخلوق الرمادي لف، وودانه بتترعش من كتر النرفزة الواضحة. تعبيرات وشه—أيوة، تعبيرات وشه—اتقلبت لقرف صريح.
      
      "مستذئب"، زمجر بنبرة قاطعة. "مش 'كلب'."
      
      فكي وقع. "اتكلم تاني!"، نطقت الكلمة غصب عني. لفيت بجنون لبقية اللي في الأوضة—البني آدمين، أو عالأقل اللي شكلهم بني آدمين. "محدش فيكم شايف ده؟ ده لسه متكلم حالاً!"
      
      الديب الرمادي بص لزايون. "ولسه فاكر إن دي ممكن تكون تهديد للميثاق؟"
      
      زايون كشر لها تكشيرة صعبة، بس أنا يا دوب لمحتها. دماغي لفت، ورجعت وقعت على المخدات ونفسي مقطوع. عشان ده؟ ده جنان رسمي.
      
      أنا إزاي جيت هنا أصلاً؟ أنا فين؟ أنا بيتهيألي. أكيد بيتهيألي. أنا متربطة في سرير في أوضة مليانة ديابة بتتكلم.
      
      "إحنا آسفين جداً على اللخبطة دي"، قال الصوت الناعم واللي فيه نبرة أمر اللي جنبي.
      
      انتباهي رجع فجأة للراجل اللي واقف فوقي. بلعت ريقي بصعوبة. فيه حاجة فيه... تقلق، أيوة، بس في نفس الوقت بتشد. مش عايزة أشيل عيني من عليه. حتة مجنونة جوايا عايزة تقرب منه أكتر.
      
      ابتسملي ابتسامة هادية، وفجأة خدت بالي إني كنت متنحة له.
      
      "أ—"، ابتديت أتكلم، بس مفيش حاجة تانية طلعت.
      
      كام واحد—وديابة—ضحكوا بصوت واطي.
      
      الراجل رفع إيده، والسكوت عم الأوضة زي ما تكون طفيت شعلة نار. دي مش مجرد سلطة—ده أمر، تقيل وقاطع. كأنه مسيطر على الهوا نفسه اللي حوالينا.
      
      "أنا ألفا أزريل"، قالها بهدوء. "أنا عارف إن دي مش ألطف طريقة نتقابل بيها. وعشان كده، أنا آسف."
      
      "إيه اللي بيحصل؟" الرعب أخيراً بدأ يوصللي. قلبي بيدق جامد في ضلوعي. نفسي ضاق. "أنا هنا ليه؟ إنتو عملتوا فيا إيه؟" صوتي علي، وبقى ملح، ومخنوق. "قولي!"
      
      قعدت أدور في دماغي على أي حاجة—أي حتة ذكرى قريبة. بس الموضوع عامل زي ما أكون بمد إيدي في مية. كل اللي بلاقيه ومضات—متقطعة وملهاش لازمة.
      
      زايون اتنفض، ووقفته اتغيرت. "إياكي تتكلمي مع ألفا أزريل بالطريقة دي—"
      
      "زايون"، أزريل زعق. صوته قطع التوتر زي السكينة. عينيه—عينيه الزرقا أوي دي—كانت باردة زي التلج وهي مركزة عليه. "كفاية. هي معاها كل الحق تحس باللي هي حاساه ده."
      
      زايون سكت، وكتافه اتضمت لجوه.
      
      لو مكنتش لسه متربطة ومرعوبة، كان زماني صعب عليا.
      
      أزريل نضف زوره ورجع بصلي. "حصل زي... لخبطة بسيطة"، قالها بحذر. "شوفي... المفروض إن إنتو كبشر متعرفوش عننا حاجة."
      
      "إنتو كبشر؟"، رددت وراه، والكلمة طالعة من بقي بالعافية كإني أول مرة أقولها. ضيقت عيني وبصيتله. "إنت بتتكلم كإنك مش بني آدم."
      
      الراجل أبو شعر غامق—اللي هو ألفا أزريل ده غالباً—سكت لحظة. بعدين ضحك ضحكة واطية، كإنه مستمتع.
      
      "أنا آسف. المفروض إن البشر ميعرفوش عننا حاجة"، قالها، ومكنش باين عليه أي أسف خالص. "بس أنا مينفعش أستبعدك... عشان إنتي كمان مبقتيش بشرية."
      
      دمي نشف في عروقي. "قصدك إيه بالكلام ده؟ إنت بتهذي."
      
      بصلي بصة كلها شفقة، والبصة دي وجعتني أكتر من كلامه.
      
      "اسمك إيه يا عزيزتي؟"
      
      "كايرا"، قلتها وأنا متخشبة. صوتي اتقطع في نص الكلمة. "اسمي كايرا هيراتا. دلوقتي لو سمحت، بس سيبني أمشي—"
      
      "إنتي كويسة يا كايرا."
      
      أول ما الكلمتين طلعوا من بقه، حاجة غريبة سيطرت عليا. زي موجة دافية بتغمر أطراف عقلي. عضلاتي استرخت. ونفسي هدي.
      
      كل حاجة حاساها... تمام. تمام أوي.
      
      بربشت بعيني وأنا متلخبطة. الرعب اللي كان ماسكني من ثواني اختفى كأنه مكنش موجود أصلاً.
      
      أزريل نضف زوره بالراحة.
      
      "أنا استخدمت أمر تهدئة. نبرة الألفا بتاعتي، بالتحديد، مع إني مش متوقع إنك تكوني عارفة ده إيه." سكت شوية، وهو بيبصلي بحذر. "كايرا... إنتي مستذئبة."
      
      
      
      
      
      
      لحظة.
      
      حدقت به. "إنت مجنون."
      
      أعرف أنه لا يجب أن أهين شخصاً مثله—شخصاً تشع منه القوة مع كل كلمة—لكنني لم أستطع تمالك نفسي. الكلمات خرجت مني قبل أن أتمكن من إيقافها.
      
      ألقيت نظرة على الآخرين في الغرفة—الرجل غاضب الطباع ذو الشعر الكستنائي الذي حاول إسكاتي سابقاً، والذئب الرمادي الذي تحدث كإنسان منذ أقل من خمس دقائق.
      
      ذئب يتكلم.
      
      أنا فعلاً بتجنن.
      
      لم يرمش أزريل. نظراته فضلت ثابتة في عينيا، ثابتة وهادية بشكل غريب. حتى إنه ابتسم—ابتسامة خافتة وحزينة.
      
      "أنا عارف إن ده صعب تصديقُه"، قالها وصوته كالقطيفة فوق الحصى—منخفض، ودافئ، ومقنع زيادة عن اللزوم. "فاكرة العضة اللي خدتيها؟"
      
      تجمدت في مكاني.
      
      "هي غيرتك"، كمل كلامه. "معظم البشر... مابينجوش من العضة. لكن إنتي نجيتي. ده بيخليكي نادرة جداً."
      
      ومضات ظهرت في عقلي—سريعة، صور مش كاملة: إحساس إني بجري على أربع، الهوا بيخبط في وشي، وبرد الليل على الفرو. الألم العميق اللي بيكسر العضم بتاع حاجة بتتحول تحت جلدي.
      
      زقيتهم بعيداً. مكنتش حاسة إنهم حقيقيين.
      
      "ده مش حقيقي"، همست. "مستحيل."
      
      شديت القيود جامد تاني، صوت خبط المعدن في المعدن عالي. معاصمي وجعتني، بس موقفش.
      
      "خرجني من هنا!"
      
      نظرة أزريل انطفت شوية، مليانة بحاجة شكلها قريب أوي من الندم.
      
      "مقدرش أعمل كده دلوقتي يا كايرا"، قالها بهدوء. "القيود دي من الفضة. هيمنعوكي من التحول."
      
      "أتحول؟" صوتي علي، حاد ومرعوب. "أتحول لإيه؟"
      
      "ديب."
      
      الصرخة بدأت تطلع من زوري، عالية وسخنة.
      
      "ده إجراء احتياطي"، ضاف بسرعة. "كان لازم نتأكد إنك مش بتمثلي تهديد."
      
      "تهديد لمين؟" زعقت، وصوتي اتشرخ. "أنا ممكن أمثل تهديد لمين أصلاً؟"
      
      رده كان هادئاً.
      
      "لينا. ليا. للقطيع بتاعي."
      
      بصيتله، متلخبطة خالص. عايزة أصرخ وأقول إني مش أنا التهديد هنا—هما التهديد—بس الكلام وقف في زوري. مفيش حاجة طلعت.
      
      جزء مني كان عارف خلاص: مش هيفرق أنا قلت إيه. هما مش هيسمعوا.
      
      زمجرة منخفضة قطعت الصمت، وأنا اتنفضت لما الراجل أبو شعر كستنائي قرب. عينيه الخضرا كانت بتشع شك.
      
      "إحنا مينفعش نسيبها هنا يا أزريل"، زمجر. "دي إبسيلون. خطيرة."
      
      "زايون"، أزريل حذره، صوته حاد زي السكينة. "امسك لسانك."
      
      "بس—"
      
      "لأ." صوت أزريل معليش، بس الأمر كان قاطع. "هي واحدة مننا دلوقتي. نفذ أوامرك."
      
      بقي اتفتح عشان أعترض—واحدة منهم؟ ولا بعد ألف سنة. بس زايون اتكلم الأول.
      
      "على جثتي!"، خطف الكلمة.
      
      نظرة أزريل بقت حادة، مميتة. يُحسب لزايون إنه متراجعش. بس نبرته اتغيرت، كإنه عارف إنه بيلعب في عداد عمره.
      
      "أنا آسف يا أزريل"، قالها وصوته مخنوق. "بس هي مش 'واحدة مننا'. إحنا منقدرش نسمح لإبسيلون تدخل صفوفنا—لا هنا ولا في أي حتة. إنت عندك فكرة ده هيعمل توتر قد إيه بين المناطق؟ ولو قطيع تاني لقاها؟"
      
      سكت. كلماته الجاية نزلت زي الهمس.
      
      "طب إيه لو هي عملت أبسيلونات؟"
      
      الجو اتغير—بقى متوتر، وهش.
      
      بس أنا مكنتش مركزة في أي تاريخ بيحصل بينهم. أنا لسه معلقة عند إبسيلون. أبسيلون. ديابة بتتكلم. ولا حاجة من دي منطقية.
      
      أنا أصلاً مش فاكرة آخر تمانية وأربعين ساعة.
      
      "هي تحت حمايتنا"، أزريل قال بحزم. "هي هتقعد معانا. مفيش استخباية تاني. مفيش خوف تاني."
      
      لفلي وقتها، ببطء، وشعر قفايا وقف كرد فعل.
      
      ابتسامته كانت هادية، بس كان فيها حاجة تقلق. وللحظة واحدة، أقسم إن كان فيه بريق في عينيه الزرقا دي—زي نور النجوم ورا عاصفة.
      
      "هي هتبقى أملنا"، قالها بهدوء. "أنا مؤمن إن عندها القوة إنها تنقذنا كلنا."
      
      "إيه؟" أنا وزايون صرخنا في نفس الوقت.
      
      مش عارفة مين اتصدم أكتر—هو ولا أنا.
      
      "ده جنان يا أزريل!" زايون اتلخبط في الكلام. "بصفتي دراعك اليمين وصاحبك، أنا بقولك—دي غلطة. خلينا ننهيها دلوقتي. نخلص عليها وننسى إن ده حصل أصلاً—"
      
      قشعريرة سرت في ضهري. يخلصوا عليا؟
      
      أكيد أزريل حس بالتغيير اللي حصلي، عشان انتباهه اتحول لزايون زي الكرباج.
      
      "وبصفتي رئيسك"، قالها بصوت واطي ومليان صرامة، "أنا بعلن إنها هتقعد. من دلوقتي، هي هتفضل تحت حماية البلاط الجنوبي."
      
      الكلمة دي فوقتني من أي ضباب كنت غرقانة فيه.
      
      "استنى—استنى، استنى"، نطقت بسرعة، وأنا بشد السلاسل. "مين قال إني هقعد؟ أنا هرجع لمابلوود. أنا عندي عيلة. وحياة. أنا مش هقعد هنا في الكابوس المجنون ده."
      
      مسكت في اللي فكراه: مابلوود، كاليفورنيا. اتنقلت من اليابان لأمريكا وأنا عندي خمس سنين. اتخرجت من الثانوي بامتياز من سنتين. دلوقتي عندي عشرين سنة وشغالة شغلانة تعبانة في محل وأنا بحاول أفهم مكاني في الدنيا.
      
      أنا عارفة أنا مين. المكان ده؟ الناس دي؟ ولا حاجة من دول لايقة.
      
      صمت غريب سيطر على الأوضة.
      
      "إنتي مينفعش ترجعي يا كايرا"، قالها بهدوء.
      
      برقتله. "ليه لأ؟"
      
      "هما... مش هيفتكروكي."
      
      "إيه؟"
      
      "صحابك. عيلتك. كل أثر ليكي اتمسح من دماغهم. ده جزء من لعنة الإبسيلون."
      
      زي ما يكون حجر بارد نزل في بطني.
      
      "إنت كداب."
      
      "أنا مش كداب."
      
      "لأ!" صوتي اتكسر. "إنت بتقول كده بس عشان تخليني هنا!"
      
      الرعب غمرني زي الفيضان. قعدت أشد الأغلال بجنون.
      
      "يا كايرا أرجوكي—صدقيني—"
      
      "سيبني أمشي!" صرخت.
      
      كل اللي في الأوضة اتنفض. أزريل بس فضل يبصلي بحزن هادي.
      
      مش هاممني هو مين. مش هاممني إيه القوة اللي عنده. هو ولا حاجة بالنسبالي. أنا محتاجة أشوف أمي. محتاجة أشوف آليا—أعز صاحبة ليا. فيه حاجة غلط هناك. أنا حاسة بده. بس مش قادرة أفتكر.
      
      كتمت الإحساس ده.
      
      "أنا عايزة أخرج."
      
      أزريل وطى راسه. "زي ما إنتي عايزة."
      
      الأوضة سكتت من المفاجأة. حتى الديبة الرمادية الهادية بان عليها الصدمة.
      
      "ألفا أزريل"، قالتها وحواجبها مقطبة. "إنت متأكد؟"
      
      "هي هترجع"، رد وهو باصص في عينيا.
      
      "لأ، مش هرجع!"
      
      شديت الأغلال تاني، وأنا ببربش جامد.
      
      "خرجوني من هنا!"
      
      راجل قرب وفك الكلبشات. أول ما وقعت، جريت عالباب—وبعدين اترددت.
      
      أنا معرفش طريق الخروج.
      
      في داهية. جريت على الشباك بداله.
      
      "استني—!"
      
      كان الأوان فات. فتحته على آخره ونطيت. ست أقدام لتحت. رجلي صرخت بس نزلت على رجلي وجريت.
      
      لم أنظر خلفي.
      
      لم أتوقف.
      
      الغابة ابتلعتني بالكامل.
      
      مع إني معنديش أي فكرة أنا فين—
      أنا بس كل اللي عارفاه إني لازم أهرب من هنا بأي تمن.
      
      

      رواية طبيبة في الخفاء

      طبيبة في الخفاء

      بقلم,

      تاريخيه

      مجانا

      بنت ذكية في سنة 1833، قررت تتحدى جهل المجتمع بقدرات الستات. عملت خطة مجنونة إنها تتنكر في هيئة راجل عشان تدخل جامعة أكسفورد وتدرس الطب مكان أخوها. الأمور بتمشي تمام لحد ما بتدخل سنتها الأخيرة وتقع في حب الدكتور بتاعها، "هاريسون جراي". المشكلة إنه فاكرها زميله "جيمس" مش "جين"، وهي لو انكشفت هتخسر كل حاجة، مستقبلها وحبها.

      جين

      شايفة إن عيشتها كزوجة أرستقراطية هتبقى زي الموت ليها. طموحها خلاها تتنكر في هيئة راجل وتخاطر بكل حاجة عشان تدرس الطب.

      دكتور هاريسون

      دكتور وسيم وشغوف بالطب، بيدرّس التشريح في الجامعة. "جيه" معجبة بيه جدًا ووقعت في حبه، وهو ميعرفش أي حاجة عن حقيقتها وفاكرها طالب عنده اسمه "جيمس".

      جيمس

      أخو "جيه" الكبير. رغم إنه "بتاع ستات" ومستهتر ومش بتاع تعليم، إلا إنه بيحب أخته جدًا. هو الوحيد اللي عارف سرها وهو اللي ساعدها تاخد مكانه في الجامعة وبيغطي عليها.
      رواية طبيبة في الخفاء
      صورة الكاتب

      الفصل الأول
      
      أكتوبر، 1833
      
      عاشت جيه الصغيرة في عالم من الجهل. كان الرجال من كل الأعمار جاهلين بمواهب الستات. الرجال في عائلتها تقبلوها، وشجعوا ذكاءها وسمحوا لها بحرية التجول في المكتبة، لكن أحلامها امتدت إلى ما هو أبعد من مكتبة قصر إيثريدج. أبعد بكتير.
      
      هي اللي فكرت في الخطة دي بنفسها لما كان عندها سبعتاشر سنة. كانت عارفة إن ده هبل وإنها أكيد هيترمي بيها في السجن بسببه، بس هي كانت عارفة إنها لازم تحاول. كان مؤلم أوي ليها إن حاجة تكون قريبة أوي كده، وفي نفس الوقت بعيدة أوي.
      
      أول واحد قفشها كان جيمس. هي مكنتش ناوية تقول له، ولا لأي حد، بس لما لقاها بتبعبص في دولابه، عرفت إنها لازم تعترف بالحقيقة.
      
      لما بتفتكر ده دلوقتي، جيه الصغيرة قادرة تفهم قد إيه كان صوتها عبيط، ورغم كده جيمس برضه ساعدها.
      
      ده كان في صيف 1829. جيه الصغيرة كانت هربت من واحدة من الحفلات الفخمة اللي أهلها عملوها كجزء من الموسم وطلعت فوق. الخطة كانت بتلف في دماغها بقالها كام يوم، ويا دوب لسه مفكرة في حاجة ممكن تنفع.
      
      فتحت باب أوضة نوم جيمس من غير ما تفكر وحمدت ربنا إنها كانت فاضية. هي مكنتش خايفة إن جيمس يلاقيها ساعتها، هي كانت خايفة أكتر تدخل تلاقي أخوها ومعاه واحدة. أخوها في الوقت ده كان بتاع ستات. جيمس كان كله ثقة، وستات الطبقة الراقية كانوا بيترموا عليه زي الهُبل. مفيش شك إن جيمس كان وسيم، بس هو عمره ما كان هيختار عروسة، إلا لو اتغصب.
      
      هي فاكرة إنها كانت بتفتح ضلف دولاب جيمس بعنف، وسامعة الأُكَر النحاس بتخبط في الحيطان. هي اتخضت ساعتها من الصوت اللي عملته، ومن الشرخ اللي ممكن يكون سابته. وبعدين سألت نفسها هي ليه مروحتش دولاب هنري، عشان عارفة إن هدومه أصغر، واحتمال كبير تيجي على مقاسها. هي هتغرق في بدل جيمس. هي كانت أطول من أخواتها البنات، بس مش بكتير، بس برضه كانت أصغر بكتير من إخواتها الولاد.
      
      شدت بالطو من الدولاب ودخلت دراعاتها فيه. الكِمام كانت طويلة أوي وشكله كان عليها زي الفستان أكتر ما هو سترة. "عبيطة،" همست لنفسها. "إيه اللي خلاكي تفتكري إنك ممكن تعملي كده؟"
      
      هي مكنتش عارفة ليه هي مش قادرة تكتفي بالحفلات والسهرات اللي بتروحها. كيتي كانت كده. كيتي كانت بتزدهر في الأجواء دي. أختها اتولدت عشان تكون من سيدات المجتمع. جيه الصغيرة بقى كانت مختلفة تمامًا. مكنتش زي أختها، آني، اللي كانت مبسوطة إنها اتجوزت صغيرة وبقت زوجة. جيه الصغيرة كانت عارفة إنها هتموت في العيشة دي، مش موت بجد، بس هتحس كأنها دايمًا بتسأل نفسها "طب لو؟" لو هي استسلمت للعيشة دي. جالها كام عرض من رجالة مختلفين بس مفيش ولا واحد فيهم كان ممكن يغريها حتى. رجالة الطبقة الراقية كانوا عايزين زوجات تسمع كلامهم وتقعد ساكتة وهما بيروحوا لستات تانية في السرير.
      
      هي فاكرة إنها اتنططت في مكانها لما الباب اتفتح فجأة. لفت عشان تلاقي جيمس بيضحك، وواحدة ست وراه، بس مكنتش باينة. شافها واقفة عند الدولاب فكشر حواجبه. "جيه الصغيرة؟" سأل.
      
      جيه الصغيرة شالت البالطو بسرعة من على كتافها ورمته في الدولاب وقفلت الضلف عشان تخبيه. "ده مش زي ما أنت فاكر،" قالت بسرعة.
      
      "كريستينا،" جيمس قال للست اللي واقفة وراه. "استنيني في المكتبة، ماشي؟" وبكده قفل الباب وقرب منها بالراحة. "جيه الصغيرة،" قال بحذر. "هو أنتي معندكيش فساتين كفاية؟"
      
      جيه الصغيرة كانت عارفة إن أخوها عارف إن فيه سبب تاني لوجودها في أوضة نومه. "متقولش لماما أو بابا،" اترجته. "أرجوك."
      
      "هو إيه اللي مش هقولهولهم، يا جيه الصغيرة؟" جيمس سأل، وهو مربع إيديه على صدره. عينيه الزرقا الغامقة كانت بتبصلها بتركيز. كان كأن نسخة أصغر من باباها بيستجوبها.
      
      جيه الصغيرة عضت على شفتها اللي تحت بتوتر. هو أخوها ممكن يفتن عليها لو قالتله؟ هو أكيد هيمنعها، فكرة إن ست تعمل اللي هي بتخططله ده كانت حاجة سخيفة.
      
      "جيه الصغيرة،" اتنهد. "لو مش هتثقي في أخوكي، يبقى مش هتثقي في أي حد. قوليلي إيه اللي بيحصل حالاً،" أمرها.
      
      هي عرفت في اللحظة دي إن أخوها عنده حق. على قد ما هي مكنتش حابة تعترف بده، هي مكنتش هتقدر تعملها لوحدها. كان لازم تثق في حد. جيمس كان دايمًا بيخلي باله منها. هو طرد عيال ألكوت من مدرسة الأحد وهما صغيرين بعد ما هاجم المدرس بتاعهم بالكلام عشان طنش أسئلة جيه الصغيرة الفضولية عن الكتاب المقدس. جيمس كان كله على بعضه عنده تمن سنين.
      
      "اوعدني إنك مش هتتعصب،" جيه الصغيرة قالتها ونفسها مكتوم، ومعدتها كانت بتتقطع.
      
      "مش هتعصب، يا جيه الصغيرة،" جيمس رد في ساعتها.
      
      "اوعدني،" أصرت.
      
      
      
      
      
      
      
      جيمس ابتسم بسخرية. "أوعدك."
      
      جيه الصغيرة أخدت نفس عميق، وهي عارفة إنها على وشك تنطق خطتها بصوت عالي لأول مرة. "أنا مش هكون راضية كزوجة لواحد أرستقراطي، يا جيمس، مش هكون. فلو مقدرتش أكون سعيدة كست، يبقى هكون سعيدة كراجل."
      
      جيمس بصلها باستغراب. "جيه الصغيرة... محدش يقدر يغير جنسه،" قال ببطء.
      
      "أنا عارفة كده،" ضحكت بتوتر. "بس الرجالة يقدروا يعملوا اللي أنا عايزاه، ولو مقدرتش أعمله بصفتي، يبقى هعمله كراجل. أنا خلاص اخترعت اسم وقصة خلفية، كل اللي محتاجاه دلوقتي هو لبس مناسب." بعدين، هي أدركت إنها هتحتاج فلوس كمان، حاجة هي محسبتش حسابها في خطتها وقتها. "جيمس، أنا عايزة أروح الجامعة."
      
      عيون جيمس وسعت. شفايفه اتفتحت ودراعاته وقعت جنبه.
      
      في اللحظة دي، جيه الصغيرة صدقت إن أخوها افتكرها مجنونة، وإن كل حاجة خلاص انتهت.
      
      بعد لحظة صمت اتكلم. "يعني، أنتي ناوية تروحي الجامعة لابسة هدومي باسم مزيف، صح؟" هو لخص لها.
      
      نبرة صوته حسستها بالعار من خطتها. هي بجد سخيفة أوي كده؟ مستحيل تكون هي أول بنت ذكية تفكر في طريقة تحسن بيها نفسها. هي برضه مستحيل تكون أول ست تدخل الجامعة... مش إنها يعني هتروح كست.
      
      "هي بجد سخيفة أوي كده؟" سألت بهدوء.
      
      "السخيف يا جين الصغيرة، إنك مجتيليش أنا الأول،" جيمس ضحك. عدى الأوضة وحط دراعه حوالين كتاف أخته الصغيرة. "ده عدل إزاي إني أدخل أكسفورد على طول عشان نوعي وأنا أصلاً معنديش أي اهتمام بالدراسة، وأنتي تقعدي في البيت مستنية التغيير اللي عمره ما هييجي؟" سألها بتفكير.
      
      جيمس كان هيبدأ في أكسفورد في سبتمبر، ودي حاجة أهلهم دبروها عشان يحاولوا يصلحوا سلوكه. جيه الصغيرة حسدت أخوها أوي لما سمعت.
      
      "ده مش عدل!" جيه الصغيرة صرخت. "بس ده مش هيتغير. الستات عمرهم ما هيتشافوا إنهم قادرين أو أذكيا."
      
      "في يوم من الأيام هيتشافوا،" جيمس وعد. "أنا متأكد. يمكن مش في جيلنا، بس في جيل ولادنا أو ولادهم." جيمس طبطب على دراع أخته يطمنها. "أنتي هتاخدي مكاني،" قال فجأة. "خدي مكاني في أكسفورد."
      
      جيه الصغيرة اتجمدت، متأكدة إنها مسمعتش أخوها صح. "نعم؟"
      
      "جيه الصغيرة، هما عمرهم ما قابلوني، معندهمش أي فكرة عن شكلي. لو روحتي هناك في سبتمبر وعرّفتي نفسك على إنك جيمس ألكوت ليه ممكن يشكوا فيكي؟"
      
      من اللحظة دي بقى عند جيه الصغيرة أمل إنها ممكن تنجح. بمساعدة أخوها، ظبطوا كام بدلة من بتوعه عشان يبقوا على قدها لما حشت صدرها. هي كانت لسه راجل صغير ورفيع، بس شكلها كان يدي على راجل. لقوا جزمة طويلة جيمس كبر عليها. كانت لسه كبيرة شوية على جيه الصغيرة بس لما حشوا البوز قماش مبقتش تتزحلق وتتخلع من كعبها وغطوا شعرها الدهبي الطويل بباروكة غامقة
      
      في سبتمبر ده بدأت تدرس الطب، بتتسلل كل يوم عشان تحضر محاضراتها. وفضلت تعمل كده تلات سنين. جيمس كان عامل نفسه بيروح الجامعة، بس هو في الحقيقة كان بيختفي في فنادق أو أي مكان يقدر يلعب فيه كوتشينة ويستمتع بصحبة ست. أخوها متغيرش كتير في رأيه عن الاستقرار، بس هي عمرها ما هتقول إنه شخص وحش. هو إداها الفرصة إنها تكون عظيمة.
      
      دلوقتي إحنا في أكتوبر 1833، وهي كانت في السنة النهائية. التلات سنين اللي فاتوا في الجامعة كانوا أحسن سنين حياتها. هي كانت مزدهرة في التعليم، وكانت بتتعامل كمساوية. الطب كان المجال الوحيد اللي هي عايزة تدرسه أكتر من أي حاجة. هي كان ممكن تستوعب معلومات ملهاش نهاية، وكانت عايزة تستخدمها عشان تساعد الناس.
      
      بس اللي هي معملتش حسابه، كان هو. حتى جيمس ميعرفش عنه حاجة. هو كان دكتور، بس كان بيدرّس تشريح لسنة تالتة ورابعة. الدكتور هاريسون جراي.
      
      أول ما جيه الصغيرة شافته واقف قدام الفصل، جيه الصغيرة افتكرته وسيم. كان وشه مريح وشعره حلو. بس كل ما اتكلم أكتر، كل ما بقى وسيم أكتر. كان شغوف وذكي وكان بجد مهتم إن طلبته يفهموا المسئولية اللي الطلبة هيشيلوها أول ما ياخدوا شهاداتهم.
      
      "محتاجين شخص كويس عشان نأتمنه على سر،" قال في أول درس ليهم. "بس محتاجين شخص عظيم عشان نأتمنه على حياة."
      
      كل كلمة قالها سحرتها أكتر، وقبل ما تاخد بالها، كانت وقعت في حبه ومفيش رجوع.
      
      هي مكنتش عارفة إيه الأسوأ. إنها تكون واقعة في حب المدرس بتاعها، ولا إن المدرس ده يكون فاكر إن نوعها عكس اللي هي عليه في الحقيقة.
      
      بعيدًا عن الأفكار الرومانسية المعقدة دي، هي عمرها ما كانت أسعد من كده.
      
      هي عمرها ما هتقدر تكشف هي مين بجد لأي حد، لو عملت كده هيتقبض عليها. كان فاضل لها سنة، سنة واحدة بس دراسة وهتبقى دكتورة. أخوها هيساعدها تأجر كام أوضة عشان تبدأ عيادة وهي هتحقق أحلامها.
      
      هي كانت محظوظة في خطتها لحد دلوقتي. عدت تلات سنين كراجل في أكسفورد وعدت تلات سنين من غير ما عيلتها تعرف هي بتعمل إيه. كان بيوجعها إنها تخبي حاجة بسطاها أوي كده، بس يوم ما تتخرج، ده هيكون اليوم اللي هما هيعرفوا فيه. هي كانت خلاص هتقول لكيتي، بس هي اعتبرتها إشارة لما مامتها قاطعتهم. اعتبرتها إشارة إنها المفروض تخلي الموضوع لنفسها، واعتبرتها إشارة إنها مش مفروض تعمل أي حاجة ناحية هاريسون.
      
      كان فاضل لها سنة بس. هي تقدر تستحمل سنة.
      
      ----
      
      

      يوم في قلب المدرسة - قصه كوريه

      يوم في قلب المدرسة

      بقلم,

      كورية

      مجانا

      مجموعة طلاب اتجمعوا في أوضة احتجاز بسبب مواقف تافهة، لكن اليوم ده بيقلب حياتهم رأس على عقب لما تيجي بنت جديدة اسمها روز تمسك الاحتجاز بدل المدرّسة. تايهيونغ الولد العصبي اللي حاسس الدنيا ظالماه، وجيمين اللي دايمًا بيضحك وبيحاول يلطّف الجو، وسوكجين الممثل اللي شايف نفسه نجم، ومعاهم باقي الشلة نامجون وهوسوك وجونغكوك ويونغي، كل واحد له طابعه الغريب. الأحداث بتبدأ عادية بس بالتدريج بيتكشف أسرار ومشاعر متخبّية، وبيتحول اليوم ده لقصة ما تتنسيش.

      روز

      شاطرة في الدراسة ودايمًا بتكون الأولى في صفها. شكلها بريء بس عندها شخصية قوية من جواها. جات تمسك الاحتجاز بدل المس أوني، وما كانتش متخيلة اليوم ده هيقلب حياتها كده.

      جيمين

      الولد الدمّه خفيف، دايمًا بيحاول يضحك الناس ويخفف التوتر. بيحب يعمل نفسه جذّاب وودود مع البنات، خصوصًا لما ظهرت روز.

      سوكجين

      الممثل بتاع الفصل، بيشوف نفسه فنان وكل حاجة لازم تبقى درامية عنده. بيحاول يكون مختلف عن الباقيين وبيحب يلفت الانتباه.
      يوم في قلب المدرسة - قصه كوريه
      صورة الكاتب

      روز مش هي روزي من بلاكبينك، الكتاب ده اتكتب واتكمِل قبل حتى ما يبدؤوا في الغِنا.
      
      بس لو حابب تتخيل روز إنها روزي، مافيش مشكله، بس حبيت أوضح إنها مش هي... دي إنت.
      
      ~•~
      
       تايهيونغ
      
      "المدرس مش هييجي." جيمين قال وهو داخل أوضة الاحتجاز ومعاه سوكجين وهو سوك وراهم.
      
      "الحمد لله! كده نقدر نمشي! أمي هتولع فيا!" نامجون وقف من على مكتبه وبدأ يجمع حاجته.
      
      "لأ، في حد تاني جاي. بس مش عارف مين." جيمين قعد جنبي.
      
      سوكجين شد نامجون وقعده تاني على الكرسي.
      
      أنا هزّيت كتفي وبصيت في الأرض بنظرة غِضب.
      
      "مالك يا تاي؟" جيمين سأل.
      
      "لسه متعصب." هزّيت كتفي تاني. "خدت احتجاز عشان سبب تافه جدًا. وإنتو كلكم اتعاقبتوا عشاني لما دافعتوا عني. دلوقتي كلنا محبوسين هنا والتسجيل بتاعنا اتوسّخ بسبب حاجه غبيه. الأستاذ إلنيون هو الشيطان!"
      
      "يا راجل، عادي. طول ما إحنا مع بعض، كله تمام." سوكجين ربت على ضهري.
      
      "بنت! بنت!" جونغكوك دخل الأوضه جاري وعينه مفتوحه على الآخر. "في بنت!"
      
      رفعت حواجبي. "إيه؟"
      
      "جونغكوك، للمرة الألف، دي مش مدرسة ولاد بس. هتشوف بنات كتير هنا." نامجون قال بتنهيده.
      
      "لأ، لأ! هي جاية تمسك مكان المدرس بتاعنا!" جونغكوك قال وهو بيتهز وقعد على الناحية التانية مني.
      
      الباب اتفتح ودخلت البنت اللي هتكون المدرسه المؤقتة.
      
      "هاي، اسمي روز. أنا جاية بدل المس أوني." البنت عرّفت نفسها وهي بتلوّح بإيدها نحيتنا.
      
      اتكأت على الكرسي وأنا بتفرج على الطالبة الشاطرة اللي دايمًا متفوقة وهي واقفة قدام الأوضه وبتعرّف بنفسها.
      
      عادي جدًا.
      
      "هممم، هبدأ بالغياب الأول. عددكم سبعة بس لازم أعمله." روز راحت ورا مكتب المدرس وقعدت.
      
      "روز؟ اسم جميل." جيمين قال وهو مبتسم بلُطف.
      
      هي رفعت راسها متفاجئة من المجاملة. "أوه، شكرًا."
      
      "ولا يهمك." جيمين كمل ابتسامته.
      
      همست له وأنا مائل عليه: "جد؟ بتحاول تصاحبها دلوقتي؟"
      
      "إنت عارف إني أحسن واحد في تكوين صداقات." همسلي وهو بيرد.
      
      لفّيت عيني. "عندك إحنا خلاص."
      
      جيمين رفع كتفه بإهمال واتكأ على الكرسي، وأنا عملت زيه وضمّيت دراعي.
      
      "طيب، فـ..."
      
      "كلنا هنا! كلنا موجودين! كلنا هنا!" هوسوك قام يلوّح بإيده في الهوا.
      
      جوايا قلت يا ريت الأرض تنشق وتبلعني.
      
      روز بصت له بنظرة غريبة، وبعدها رجعت تبص في الورق.
      
      لساني لف في خدي وأنا ببص على روز ودماغي بدأت تشتغل.
      
      أنا عارفها.
      
      عمري ما شوفتها كتير، بس سمعت اسمها. دي البنت الشاطرة اللي دايمًا بتاخد امتيازات، بنت المدرسين.
      
      بنت عاديه جدًا.
      
      كنت فاكر شكلها هيبقى أ nerd أكتر.
      
      ليه متفاجئ إن مدرس سلّمها احتجاز؟
      
      ضحكت لنفسي بسخرية.
      
      مش عارف ليه، بس عشان أنا فاشل في المدرسة، لما بشوف ناس ماشية تمام، بيتنرفزني جدًا.
      
      ليه سهل عليهم وصعب عليا كده؟
      
      جيمين ضربني على ودني.
      
      "آه! إيه يا جيمين؟" قلتله وأنا واطي صوتي.
      
      "إنت بتعمل الحركة الغريبة دي تاني."
      
      "يعني إيه؟"
      
      "وشك الفاضي ده. بتفكر في إيه؟ وبعدين اقفل بقك قبل ما حاجة تدخل." قال وهو بيضحك بخفة.
      
      "ماعلينا."
      
      سمعت صوت كُرسي بيتسحب، وبصيت لقيت سوكجين قام من مكانه وراح على مكتب المدرس، وإحنا كلنا اتفرجنا عليه باستغراب.
      
      "روز؟" قال وهو واقف قدام المكتب.
      
      "أيوه؟"
      
      
      
      
      
      
      
      "فين المس أوني؟"
      
      "إنت جيت لحد هنا عشان تسأل السؤال ده؟" قالت وهي مش رافعة عينيها من الورق اللي قدامها.
      
      سوكجين خبط بإيده على المكتب، وده خلّى روز تتخض وتتنفض على الكرسي.
      
      أصحابي كلهم بصّوا لبعض وهم بيحاولوا يمسكوا نفسهم من الضحك.
      
      أنا هزّيت راسي وأنا مش مستمتع خالص بتصرف سوكجين المفاجئ.
      
      كده هيورّط نفسه أكتر.
      
      "ردي عليّ، الموضوع مش صعب." كررها بنبرة غليظة.
      
      "الـ... المس أوني مشغوله في شغل عيلة، وطلبت مني أراقب الاحتجاز النهارده بدلها."
      
      الراجل القديم نقر بلسانه وقال: "كانت سهله كده."
      
      ولما رجع مكانه، روز بصّت له بنظرة مستغربة، وبعدها طنشته وكملت شغلها.
      
      ضربته على دراعه وهو ماشي جنبي. "إيه اللي عملته ده؟ كنت ممكن تاخد احتجاز تاني!"
      
      نامجون ضحك وقال: "أيوه، هو إيه ده؟"
      
      هوسوك ضاف وهو بيضحك: "كنت بتمثل شخصيه تانيه ولا إيه؟ إحنا في دراما من بتوعك يا نجم؟"
      
      "إيه؟" قال وهو بيضحك. "هي ما تعرفنيش، فممكن أظهر بشخصية مختلفة تمامًا. دايمًا كنت شايف إني أقدر أكون الولد الشقي. نادوني ماريو من دلوقتي."
      
      نامجون وهوسوك وسوكجين انفجروا من الضحك، وأنا قاعد مكانى مش متأثر خالص باللي بيعملوه.
      
      "بتتكلم جد يا سوكجين؟ لو خدت احتجاز تاني وأهلك لاموني أنا؟" قلتله بغضب.
      
      "اهدَى يا صاحبي." نامجون خبطني على دراعي. "مش هيحصل كده."
      
      هزّيت راسي. "أنا مش جاي أهرّج. هي ممكن تبلّغ عنّا، فاهم؟"
      
      "دي مش الأستاذ إلنيون."
      
      "هاي، روز؟" جيمين رفع إيده.
      
      كلنا بصّينا عليه.
      
      "ممكن تساعديني في الواجب بتاعي؟" قال وهو طالع ورقه من شنطته. "في حاجه مش فاهمها بقالها فتره."
      
      روز أومأت ووقفت من مكانها. "مادة إيه؟"
      
      "رياضيات."
      
      "أكيد، تمام." ركعت جنبه.
      
      جيمين كان مركز نظره عليها بدل الورقة. مال ناحيتها وشم شعرها وهي بتبص في المسألة.
      
      يا لهوي.
      
      عملت له بحركة بُقّي: "بتعمل إيه يا جيمين؟ مقرف ده!"
      
      رد عليا بنفس الطريقة: "ولا حاجه." وكمل يتكلم معاها.
      
      روز بدأت تشرح له المسائل اللي "مش فاهمها". كانت بتتكلم بثقة كأنها خبيره، وإحنا قاعدين بنتفرج عليهم زي العيال الفضوليين... ماعندناش حاجه نعملها أصلاً.
      
      فضلت أنا مركز في الأرض، بشتكي لنفسي عن قد إيه مدرّسيني أغبيا، وقد إيه أهلي هيزعقوا لي عشان خدت احتجاز تاني.
      
      أنا إنسان ذكي، بس عشان اتأخرت دقيقه واحده، آخد احتجاز؟!
      
      "واو يا روز، إنتِ شاطره جدًا. ممكن تساعديني في واجب العلوم؟" هوسوك قال وهو ساحب مكتبه كله ناحية جيمين وروز.
      
      "مش عارفه هنلحق ولا لأ." بصّت في الساعه. "الاحتجاز مدته ٤٥ دقيقه بس..."
      
      "طب تعالي عندي البيت، تشرحيلي هناك." هوسوك قالها على طول وهو مبتسم ابتسامة ساحرة.
      
      "بيتك؟" وقفت عن الكتابه وبصّت له. وشها احمَر من المفاجأة.
      
      "أنا فعلًا محتاج المساعده." هوسوك زودها.
      
      "ممم... يمكن..."
      
      "آه، ممكن تساعديني أنا كمان؟" نامجون قال وهو بيضحك ببراءة. "عايز أزوّد درجتي في الكيمياء."
      
      هوسوك همس له: "من إمتى بتفكر في درجاتك؟"
      
      "من ساعة ما إنت بدأت تهتم."
      
      "لو عندك وقت، أنا كمان محتاج دروس." جونغكوك صاح من ورا.
      
      "آه، يعني دلوقتي ماعندكش فوبيا البنات؟" بصيت له بحدة. "بتسألها ليه يا جونغكوك؟ أنا اللي بعلمك دايمًا."
      
      "حاسس إن روز هتكون مدرسه أحسن."
      
      قعدت في مكاني وأنا بكتم ردي اللي كان هيبقى قاسي.
      
      مستفز.
      
      "مدرس الرياضة قاللي أدور على مدرسه خصوصية." حتى يونغي، بشكل غريب، دخل في الحوار.
      
      تنهدت وأنا زهقان من تصرفاتهم.
      
      بيعملوا إيه دول؟ بيعزموا بنت غريبة على بيوتهم؟ تصرف مقرف جدًا.
      
      هما ليه محتاجين حد أصلاً؟ إحنا عندنا بعض. أنا دايمًا اللي بساعدهم في المذاكرة... بس ماقدرتش أعمل كده بسبب الاحتجاز الغبي والأستاذ إلنيون!
      
      "هو بصراحه، ده كان قرار مفاجئ." روز قالت وهي واقفه قدام المكتب ومتكئة عليه. "إنتو فعلًا محتاجين مساعده؟"
      
      "أيوه!" كلهم بصّوا لبعض وبعدين ليها.
      
      "نقدر نتقابل في بيتي. أهلي مسافرين نهاية الأسبوع." سوكجين قالها بابتسامة ماكرة.
      
      لفّيت عيني.
      
      كل ده شكله سخيف بالنسبالي.
      
      بس بصراحه، كل حاجه بقت سخيفه.
      
      أنا لسه متعصب وقلقان لدرجة مش قادر أجادل مع صحابي الأغبيا دول.
      
      خلاص.
      
      مايهمنيش.
      
      
      

      مغامرات راي

      مغامرات راي

      بقلم,

      اجتماعيه

      مجانا

      راي بتروح تقعد مع صاحبتها الانتيم "بيلا" اللي أبوها شايف إنها بقت "زي الزومبي" بعد ما حبيبها سابها. مهمة راي إنها تحاول ترجع بيلا للحياة تاني، بس بتكتشف إن بيلا بقت بتدور على الخطر عشان تحس بأي حاجة. بيلا بتتهور وبتشتري تلات موتوسيكلات خربانة عشان هي وراي وجيك (أخو راي) يصلحوهم. ده بيورط راي وأخوها في سر كبير لازم يخبوه عن أبوهم (بيلي) وعن أبو بيلا (تشارلي). الرواية بتمشي في سكة محاولة بيلا إنها "تتغير" عن طريق الأدرينالين والخطر، وصاحبتها اللي بتحاول تحميها.

      راي

      سابت كل حاجة عشان تقف جنب صاحبتها في أزمتها. لسانها طويل شوية، خصوصًا مع أخوها "جيك"، بس قلبها أبيض وبتحب بيلا جدًا.

      بيلا

      البنت اللي في الأزمة. حبيبها (إدوارد) سابها و"كسرها"، وبقت عايشة في عالم تاني. بدأت تدور على أي إحساس بالأدرينالين والخطر (زي الموتوسيكلات) عشان تهرب من وجعها أو تحس إنها عايشة.

      جيك

      شاب بيعرف في الميكانيكا وشاطر. بيحب يتخانق وينكش في أخته (راي)، وباين إن فيه "جو" أو علاقة خاصة بينه وبين بيلا.
      مغامرات راي
      صورة الكاتب

      "بجد شكراً تاني إنك عملتي كده يا راي. وقولي لبيلي إني بشكره هو كمان."
      
      الارتياح والتعب اللي كانوا على وش تشارلي المسكين خلوني قربت أعيط وأنا بدخل البيت اللي من دورين، والجدران المألوفة بتبصلي.
      
      أنا جيت هنا مرات كتير قبل كده، لإن بيلا كانت زي أقرب صاحبة ليا، بس المرة دي، أنا هنا عشان أفضَل. على الأقل هفضل شوية، لحد ما بيلا تلم نفسها.
      
      بصوا، بيلي، أبويا، وتشارلي، أبو بيلا، هما اللي رتبوا الموضوع ده. كان المفروض إني أقعد في المنطقة بتاعتنا الصيف ده زي ما بعمل كل مرة، بس من ساعة ما إدوارد كولين ساب صاحبتي وهي متدمرة خالص.
      
      تشارلي بيقولي إنها يا دوب بتاكل ومبقتش بترد على مكالماتي خالص. أنا مش عارفة بالظبط هو عملها إيه، بس اطمنوا، لما ألاقيه، ليا معاه كلام تاني خالص.
      
      "مفيش مشكلة يا تشارلي،" قلتله وأنا بحط شنطتي وبتنهد. "أي حاجة أقدر أساعد بيها."
      
      "أنا بس... أنا عمري ما شفت حاجة زي دي يا راي. بيلا... دي طول عمرها قوية. بس هو كسرها. لما مشي، هو بس..."
      
      تشارلي بلع ريقه بصعوبة وأنا حسيت بالدموع بتلمع في عينيا.
      
      "أنا آسفة،" همست بصوت واطي، وزوري كان واجعني. "زي ما قلت، أي حاجة أقدر أساعد بيها، هعملها."
      
      "هي في أوضتها،" تشارلي نضف زوره وهز راسه. "أنا... أنا هسيبك ليها."
      
      بوش مكشر وقلبي واجعني على بيلا، طلعت السلم على مضض وأنا بتنهد.
      
      كرهت إن الدنيا توصل لكده. كرهت إني مضطرة أعيش هنا بنفسي لإن تشارلي كان مُرهق لدرجة إنه مبقاش قادر يتعامل لوحده خلاص. الهالات اللي تحت عينيه وجعت قلبي؛ أنا بس كنت بحاول أتخيل بيلا عاملة إزاي.
      
      بتردد، وقفت ورا الباب الأبيض وخبطت بالراحة. هو كان مفتوح، بس مسمعتش أي حركة حد جاي يشوف مين.
      
      "بيلا؟" دخلت ببطء، ولاحظت على طول الفوضى اللي مش شبه بيلا خالص. هي مش مهووسة نظافة أوي يعني، بس كانت دايمًا مرتبة. "بيلز، إنتي هنا؟"
      
      مفيش رد.
      
      دخلت جوه خالص وشهقت لما شفتها أخيرًا.
      
      كانت قاعدة على كرسيها، من غير أي حركة. كان شكلها زي الشبح، مجرد هيكل للبنت اللي كانت أقرب صاحبة ليا.
      
      "يا بيلا،" رميت كل حاجة وجريت على طول جنبها، وأنا شايفة تعابير وشها الغايرة وبشرتها الباهتة.
      
      "راي؟"
      
      أخيرًا، رد فعل. عين بيلا وسعت وهي بتلف بكرسيها، ومشاعر قليلة ظهرت في عينيها البنية. "إنتي إيه... قصدي إنتي إزاي-"
      
      وبيلا بتتلعثم في كلامها، أنا ضحكت ضحكة خفيفة.
      
      "تشارلي بعتني، يعني زي ما تقولي 'فرقة حماية بيلا'، عشان أتأكد إنك كويسة. هو وبيلي هيخلوني أعيش هنا شوية لحد ما إنتي... أمم..."
      
      صمت محرج سيطر علينا وبيلا بصت في الأرض بكسوف.
      
      "هو بعتك تعيشي معانا هنا؟ معرفش هو قالك إيه بس يا راي أنا بجد مش للدرجة دي-"
      
      "بيلا،" قاطعتها قبل ما تكمل. "هو كان هيرجعك جاكسونفيل، إنتي فاهمة طبعًا؟ هو قال إن الوضع سيء للدرجة دي."
      
      كل الناس كانت عارفة إن بيلا هي فرحة تشارلي وكل حاجة ليه. هو عمره ما كان هيحب يشوفها بتمشي، بس عشان يوصل إنه يبعتها بإرادته، يبقى أكيد فيه حاجة غلط.
      
      "جاكسونفيل؟" عين بيلا وسعت. "إيه؟! هو ميعرفش يبعتني جاكسونفيل! ده مش-! هو مينفعش-!"
      
      "بيلا، بيلا!" مسكتها وهي بتبدأ تقوم بهياج، والهلع في عينيها. "بيلا اهدي! محدش هيبعت حد لجاكسونفيل! على الأقل مش دلوقتي..."
      
      تشارلي بس قال إن ده هيكون آخر حل ليه، لو أنا معرفتش أساعد. فيعني لو فشلت...
      
      "راي أنا مينفعش أمشي،" عين بيلا كانت لسه واسعة. "قصدي إنتي مش فاهمة، إدوارد-"
      
      إحنا الاتنين أخدنا نفسنا بصعوبة.
      
      "أ-أنا قصدي... حياتي هنا. أنا بس أمشي. مينفعش أمشي،" بيلا همست. أنا كشرت.
      
      "بيلز، إنتي حتى مبقتيش بتقومي من السرير،" همست بحزن. "مبتتكلميش، يا دوب بتاكلي. تشارلي هيموت من القلق. بيقول إنك مبقتيش بتعملي أي خطط معايا أو مع أي حد من صحابك التانيين. إنتي مينفعش تعيشي كده على طول."
      
      "أنا عارفة،" بيلا قالت. "بس أنا... أنا كنت بعمل خطط. أنا وجيسيكا صاحبتي... إحنا كنا هنروح نـ-نعمل شوبينج."
      
      بيلا بصت بعيد في الفراغ وأنا رفعت حاجب.
      
      "شوبينج؟" أنا قربت أضحك بسخرية من كتر ما الموضوع كان سخيف. "بيلا، إنتي بتكرهي الشوبينج!"
      
      "مبقتش أكرهه!" دافعت عن نفسها، وإحنا الاتنين كنا عارفين إنها كدبة. "أ-أنا عايزة أروح. في الحقيقة، هي قالت إننا ممكن نروح النهاردة. الليلة. و-ونتفرج على فيلم، لو إنتي عايزة تيجي معانا."
      
      درست وشها. أنا أعرف بيلا من زمان و كان واضح إنها بتكدب. مع ذلك، كان شكلها يائس. وبيلا عمرها ما كانت يائسة.
      
      بصتلي بعينين بتترجاني وعدت إيدها في شعرها.
      
      "أرجوكي متخليهوش يبعتني. ساعديني أوريله... أ-أنا ممكن أتغير. أرجوكي؟"
      
      شكيت في ده، على الأقل بالطريقة اللي هي بتوصفها، بس مع ذلك، هي كانت صاحبتي وأنا كنت هنا عشان أساعدها.
      
      "ماشي،" قلت، وأنا بخرج نفس. "يلا نروح نعمل شوبينج وحاجات. بس مين جيسيكا دي، لو تسمحيلي أسأل؟"
      
      \* \* \*
      
      "هما كانوا بيحاولوا يتريقوا على الجذام؟ لإن ده ميضحكش. ابن عمي كان عنده جذام وأنا..."
      
      مسكت نفسي بالعافية من التأفف وبيلا كانت كاتمة ضحكتها، وجيسيكا داخلة في نوبة رغي تانية عن نفسها.
      
      لو كنت أعرف مين جيسيكا دي، عمري ما كنت جيت الليلة. أوكيه، سيبك من ده، أنا كنت هاجي برضه، بس يا إلهي كنت أتمنى لو جبت معايا سدادات ودان.
      
      "ويعني، هو ده كان المفروض يبقى استعارة للنزعة الاستهلاكية؟ لإن يعني، متكونيش فرحانة بنفسك أوي كده، فاهمة...؟"
      
      "تمام!" لفيت فجأة قدام البنات، ووقفتهم بابتسامة مزيفة على وشي. أنا مكنتش قادرة أستحمل أكتر من كده. "مين عندها أي أفكار نعمل إيه بعد كده؟ مكتبة؟ ميلك شيك؟"
      
      أي حاجة تخلي البنت دي تسكت، فكرت بوقاحة.
      
      "في الحقيقة الميلك شيك فكرة حلوة،" بيلا جارتني، "أنا أعرف مكان معين-"
      
      "أهلاً يا حلوين! ما تيجوا هنا وتركبوا معانا- قصدي معانا!"
      
      صوت مفاجئ قاطع بيلا وخلانا إحنا التلاتة نلف.
      
      بقرف، شفت مجموعة من ست خنازير بيبصوا علينا، بيفلّونا بعينيهم. واحد منهم غمزلي وأنا صوت قرفي طلع غصب عني.
      
      "مقرف."
      
      "إيه القذر ده،" جيسيكا قالت باحتقار، ولأول مرة أتفق مع البنت دي.
      
      "يلا بينا، نمشي من هنا،" قلت بحماية، وأنا بشد دراع بيلا.
      
      "أه،" جيسيكا وافقت، بس بيلا متحركتش.
      
      "استني، أنا شكلي عارفة الرجالة دول،" قالت، وهي بتشد إيدها مني، وده صدمني أنا وجيسيكا.
      
      إيه الجنان ده؟
      
      "بيلا؟ بيلا!" ندهت على اسمها بقلق بس جيسيكا منعتني أروح وراها. بعجز، اتفرجت عليها وهي بتركب ورا واحد من الرجالة على موتوسيكل وبيختفوا.
      
      "يا شيخة، إيه الهبل ده!" شديت نفسي من جيسيكا بغضب. "ليه مسكتيني؟ أنا كنت هروح وراها!"
      
      "إيه، وتروحي تموتي إنتي كمان؟ أنا مش هطلع في برنامج جرايم مرتين!"
      
      نفخت بضيق، وبصتلها بغل وبصيت بقلق على المجموعة. هما كانوا لسه مبحلقين فيا، بس حاجة جوايا قالتلي منزليش هناك.
      
      "يلا يا بيلا، يلا بقى..."
      
      دعيت إنها ترجع سليمة. أبويا، ده غير جيك وتشارلي، كانوا هيقطعوا رقبتي لو مرجعتش.
      
      "يلا بقى..."
      
      فجأة، صوت زئير موتور خلّى قلبي يطير.
      
      بيلا رجعت بسرعة في مدى الرؤية، لسه سليمة، ونزلت من على موتوسيكل الراجل لما وقف.
      
      بمكسوف، مشيت ناحيتنا بس كان شكلها مرتاح أكتر ما هي خايفة.
      
      "بيلا! يا إلهي الحمد لله!"
      
      حضنتها جامد وبعدها على طول ضربتها على دراعها، وده خلاها اتنفضت. جيسيكا كانت واقفة وراها بإحراج.
      
      "إيه يا بنتي، إيه الهبل ده؟ إنتي عايزة تموتي ولا إيه؟!"
      
      "أيوة، أنا وراي افتكرناكي هتطلعي في برنامج جرايم ولا حاجة!" جيسيكا اتدخلت. "إنتي كان في دماغك إيه بالظبط؟!"
      
      "كانت... مغامرة،" بيلا قالت بحماس، وده خلانا إحنا الاتنين فاغرين. "أنا عايزة أعملها تاني. أنا محتاجة..."
      
      سكتت في نص الكلام وأنا تابعت عينيها وهي بتبص في الفراغ. مكنش باين إن فيه حاجة هناك، بس كان فيه ابتسامة خفيفة على وش بيلا والضلمة بتبتسم لها هي كمان.
      
      اتنهدت.
      
      الموضوع ده هيبقى أصعب مما افتكرت.
      
      
      
      
      
      
      صحيت تاني يوم الصبح على رسالة.
      
      جيك: بيلا عاملة إيه؟ لسه زي الزومبي؟ :ب
      
      قلبت عينيا.
      
      راي: متقولش كده يا غبي. والوقت لسه بدري أوي إنك تبعت رسايل
      
      موبايلي اهتز بعد أقل من دقيقة.
      
      جيك: مش بدري للناس الطبيعيين زينا
      
      جيك: مش كل الناس بتنام لحد الضهر
      
      أنا: ماشي. سلام
      
      جيك: بحبك إنتي كمان
      
      أنا: غور من وشي
      
      أنا: بحبك إنت كمان
      
      اتنهدت وأنا بسيب الموبايل، وببص على الساعة. اتضايقت لما أدركت إن جيك كان عنده حق.
      
      كانت الساعة قربت تيجي اتناشر ونص اليوم كان ضاع خلاص. بس عشان أكون صريحة، أنا لمت بيلا وتصرفاتها الغريبة بتاعة إمبارح بالليل. التوتر ممكن يبقى حمل كبير على الواحد.
      
      بس بمناسبة الموضوع ده، لبست بسرعة ونزلت للدور اللي تحت. كان يوم التلات عشان كده كنت عارفة إن تشارلي مشي. بس كنت بتمنى إن بيلا متكونش اتسحبت وخرجت هي كمان.
      
      "بيلز؟ إنتي هنا؟"
      
      ياااه هو أنا بضحك على مين. بيلا هتروح فين بإرادتها، خصوصًا دلوقتي؟
      
      أكيد مش مع عصابة موتوسيكلات تانية، أتمنى يعني.
      
      "أيوة أنا هنا! أنا بره!"
      
      نزلت ومشيت ولقيت الباب الأمامي مفتوح، وكان فيه صوت "بيب بيب" غريب جاي من بره. كان صوته زي ونش سحب، وللحظة اتساءلت إذا كانوا جم أخيرًا عشان ياخدوا الخردة اللي أبويا باعها لها.
      
      "بيلا؟ إيه اللي-"
      
      أوه.
      
      أوه.
      
      الموضوع كان أسوأ. أسوأ بكتير، بكتير أوي من ونش سحب. في الحقيقة، أنا كنت متأكدة إنه لو تشارلي كان هنا، كان هيقبض على راي بيكرتون حالاً لإنه بيحمّل مش موتوسيكل واحد، لأ تلاتة، في شنطة عربية بيلا.
      
      بُقي اتفتح من الصدمة.
      
      "كده كويس يا راي! شكرًا!" بيلا ندهت على الراجل العجوز، اللي ابتسم وعملها علامة "تمام" بإيده.
      
      بعدها رجعت لجوه البيت، مطرح ما كنت مستنياها وبُقي لسه مفتوح.
      
      "بيلا،" سألتها ببطء، وهي بتبصلي ببراءة، "إنتي. عملتي. إيه؟"
      
      "اشتريت تلات موتوسيكلات من راي. قلتله يحملهم على العربية عشان أقدر أخدهم لجيكوب يمكن يصلحهم." عضت على شفتها.
      
      أخدت نفس ببطء.
      
      "إنتي... إنتي اشتريتي موتوسيكلات؟ عشان أخويا يصلحهم؟"
      
      جيك، لو إنت مشترك في الموضوع ده، أنا هقتلك.
      
      "أرجوكي متقوليش لتشارلي!" بيلا نطقت بسرعة وهي ملاحظة تعبيراتي. "هو أصلًا قلقان كفاية."
      
      "إنتي محظوظة إني مقولتلوش على اللي حصل إمبارح بالليل، لكن ده!" بصيت لبيلا ومش مصدقة. "لو تشارلي أو أبويا عرفوا إحنا الاتنين هنتعاقب! ده غير جيك! قصدي، هو أصلًا يعرف؟"
      
      "أنا كنت مخططة أقوله لما أوصل هناك،" بيلا قالت بكسوف.
      
      "يعني إنتي حتى مستأذنتيش الأول قبل ما تجنديه كده؟"
      
      "ما هو طول الوقت عمال يتفاخر بمهاراته! وبيقولي إنك شاطرة إنتي كمان. وإنتي طول عمرك كان نفسك في موتوسيكل،" بيلا حاولت تزقني، وهي عارفة إنها صح.
      
      أنا فعلًا كنت عايزة، بس بيلي كان هيقطع رقبتي لو اشتريت واحد، أو حتى فكرت أصلح واحد.
      
      بس برضه...
      
      اتنهدت. "إنتي محظوظة إني بحبك يا بيلا سوان،" استسلمت. "بس ولا كلمة لتشارلي أو بيلي، مفهوم؟"
      
      بيلا ابتسمت ابتسامة عريضة. "بُقي مقفول."
      
      \* \* \*
      
      "أبويا هيقتلنا إحنا الاتنين،" جيك قال أول ما وقفنا بالموتوسيكلات.
      
      "أهلاً بيك إنت كمان يا أخويا،" قلت بسخرية، وأنا بنط من عربية بيلا وباخده بالحضن.
      
      "أهلاً جيك،" بيلا ابتسمتله ابتسامة خفيفة وهي بتنط من العربية هي كمان. "أنا جبتلك هدية."
      
      "شايف،" جيك رفع حاجب ورجع حضني. "مكانش ليه لازمة. تشارلي وبيلي هيقتلونا."
      
      "ده بس لو عرفوا،" وضحتله. "بس لو حد فتَن،" بصيتله بغل.
      
      جيك قلب عينيه. "أنا مش هفتن،" قال وهو بيزقني. "أنا بس مستغرب ليه جبتوهم هنا، بالذات."
      
      "أصل الكلام اللي داير في البلد إنك ميكانيكي جامد،" بيلا بدأت.
      
      "بجد؟" جيك حاول ميبتسمش. أنا قلبت عينيا على فرحته الواضحة أوي دي. "وإيه كمان؟"
      
      "ما أنا كنت بتمنى... إنك يمكن تساعدنا نصلحهم؟"
      
      كان فيه لمعة معينة في عينيها وهي بتبص لأخويا، لمعة مكنتش موجودة حتى معايا. بيلا وجيك، حسنًا، أعتقد ممكن تقول إنهم بيلفوا ويدوروا حوالين بعض من زمان أوي. وأنا كان عندي فضول أعرف إيه اللي هيحصل بينهم الصيف ده.
      
      "أنا؟" جيك عمل نفسه مبهور. "لأ... قصدي أنا-"
      
      "يا إلهي ما توافق وتخلص بقى؟" قاطعته وأنا بنفخ بضيق. "يلا، قدامك شوية موتوسيكلات تصلحها!"
      
      "أعتقد قصدك إحنا،" جيك صححلي، وهو بيضيق عينيه ناحيتي. "ومتقاطعينيش كده تاني. عيب تقاطعي اللي أكبر منك."
      
      نفخت. "الحاجة الوحيدة اللي إنت متفوق عليا فيها هي الطول يا بلاك. إنت يا دوب أكبر مني."
      
      "أكبر منك بحداشر شهر، وده معناه إن بالقانون أنا اللي أقولك تعملي إيه."
      
      رفعتله صباعي الأوسط. "ده بعينك."
      
      فك جيك وقع.
      
      بيلا كانت بتبصلنا ببساطة وابتسامة عريضة على وشها، مستمتعة.
      
      

      روايه مزرعة مونتانا

      مزرعة مونتانا

      بقلم,

      رومانسية

      مجانا

      راجل هربان من ماضي مليان دم وذنوب، بيسيب عيلته وبيروح يشتغل في مزرعة بعيدة وقاسية في مونتانا كنوع من الكفارة عن خطاياه. كان فاكر إنه هيلقى برد وموت بس، لكنه اتفاجئ إن ريّسة العمال اسمها وايَت، ست قوية وحادة زي السكينة. من أول نظرة، جاسبر حس برابطة جبارة زي الكيّ بالنار ربطته بيها، وكأنها قدره اللي مفيش منه هروب. دلوقتي بقى عليه إنه يثبت نفسه في الشغلانة الصعبة دي ويكسب احترامها، وهو بيحارب أشباح ماضيه وجوعه القديم.

      جاسبر

      راجل عاش قرون وشايل ذنوب جيش قديم. قوي ومبيحتاجش يتنفس أو ينام، وبيحاول يكفّر عن ماضيه العنيف. هو هادي بس جواه نار قايدة.

      وايَت

      وريّسة العمال في المزرعة. ست شابة، قوية، لسانها حاد ومبيهمهاش، وعينيها زرقا زي السما. هي "الرفيقة" اللي قدرها اتربط بقدر جاسبر.

      رويس ومابيل جنسن

      أصحاب المزرعة. ناس ناشفة وقاسية زي الأرض اللي عايشين عليها، الشغل عندهم هو كل حاجة.
      روايه مزرعة مونتانا
      صورة الكاتب

      الطريق كان ممدود قدامه زي نَدبة.
      
      جاسبر ويتلوك هيل كان سايق ناحية الغرب في مونتانا يوم راس السنة في عربية دفع رباعي سودة، أقدم من معظم الرجالة اللي على الطريق السريع، من النوع اللي ماسك نفسه بالعند أكتر ما هو ماسك بالحديد. الدفاية كانت بتزيّق ضد البرد، ومش قادرة على ضباب التلج اللي بيزحف على أطراف الإزاز. كان سايق وجوانتياته ناشفة على عجلة القيادة، كتافه ثابتة زي الحجر، وصوت الموتور الخشن مالي السكوت اللي هو كان رافض يكسره.
      
      شرق مونتانا ميعرفش حاجة عن الرقة. دي كانت أرض منحوتة من الريح والعضم، أرض مفرودة وواسعة لحد ما تسيح في السما. الأرض كانت ناشفة، والسما واطية، والأفق مزرق كأنه مضروب ومستني عاصفة. عمدان السور كانت واقفة زي شواهد القبور في التلج، وأسلاك شائكة نصها مدفون تحت الكتل التلجية. المواشي كانت مكوّمة وسودة وسط الحقول البيضا، وبخار طالع من مناخيرها زي الشبح. مفيش بني آدم واحد على مرمى البصر لأميال.
      
      والمكان ده كان لايق عليه.
      
      الأرض كانت قاسية ومبترحمش، وجاسبر كان بيفهم الحاجات اللي مبتعرفش الرحمة. هو نفسه كان واحد منهم في يوم من الأيام.
      
      هي اللي لقت الإعلان—لسه قادر يشوفها وهي بتزق الورقة المطبوعة على المكتب في إيثاكا، إيدها الصغيرة شكلها مرتب على الورقة. مطلوب عامل لفصل الشتا. سكن وأكل. مزرعة قرن الأيل، مقاطعة كاستر. مشرحتش إزاي عرفت عن شغل في مزرعة في مونتانا في حين إن معظم العيلة أصلاً مبيقرأوش إعلانات الشغل. مكنتش محتاجة تشرح. هي دايمًا كانت بتشوف أبعد من كلامها. عينيها كان فيها حزن في اليوم ده، كأنها مكنتش بتديله مهرب، دي كانت بتديله حُكم.
      
      هو مسألش. عمره ما سألها تشرح رؤاها. الرؤى دي كانت هي خلاصه في وقت من الأوقات، وبرضه كانت هي عذابه. هو بس طبّق الورقة، وحط حاجته في شنطته، وساق لحد ما الطرق اتجمدت تحت منه.
      
      كان بيقول لنفسه إن السبب هو إنه مقدرش يفضل مع العيلة. مش بعد اللي حصل معاها.
      
      دمها كان بيغني جواه زي ترنيمة مقدسة، كل غريزة في جسمه كانت بتصرخ عشان ياخد، عشان يدمر، عشان يقطع رقبتها الرقيقة. حس بالدم ده بيحرق زي نار المعركة تاني، جوع الحرب القديم بيرعش عظامه. شاف وشه، شاحب ومسحوب، وسمع صوتها بيتكسر زي الخشب الناشف. مكنش ينفع حد يثق فيه. هو مكنش من العيلة. هو كان زي مسدس متعمر على ترابيزتهم.
      
      بس الموضوع مكنش بسببها هي وبس. لأ، عمره ما كان بسببها هي وبس.
      
      الموضوع كان قرون من الدبح اللي تحت جلده. جيشها من المواليد الجدد، عيال بيتسحبوا نص كبرانين للدم والتراب، صرخاتهم بتتشد منهم وهو بيكسرهم بإيديه الاتنين. كان ريحة اللحم المتفحم في شمس المكسيك، كان حمل القيادة اللي ضاغط على كتافه لحد ما افتكر إنه هيتفلق منه. كان الختم بتاع كل خطيئة شالها، كل واحدة منهم محفورة أعمق من الندوب.
      
      كفارة. ده اللي هو كان عايزه. كفارة في مكان قاسي كفاية إنه يعرّيه لحد العضم.
      
      كاوتشات العربية عملت صوت وهي بتدوس على التلج وهو بيلف من على الطريق المقاطعة، ودخل بهدوء من بوابة متوّجة بقرون قد البني آدم. رف من قرون الأيائل، لونها أبيض بسبب الشمس ومسمّرة فوق عارضة خشب، مسيطرة على المدخل زي نذير شؤم. الاسم كان مدقوق تحتها بحروف حديد مسوّدة من الزمن: مزرعة قرن الأيل.
      
      المدخل كان طويل، على جنابينه أشجار حور متغطية بالتلج بتخبط في بعضها زي العضم في الهوا. وراهم كانت الأرض ممدودة—مساحة من المراعي البيضا والخشب الغامق، تلال طالعة لحد ما ابتلعها الأفق. مباني خارجية متكومة ضد الجو: إسطبلات واطية على الأرض، سقَايِف متنية من التلج، ومبنى سكن العمال الدخان طالع من مدخنة بتاعته. وفي قلب ده كله كان البيت الأساسي، مبني بالخشب ومربع، البلكونة بتاعته متعلق عليها قرون، وفوانيس قديمة بتترجح مع نَفَس العاصفة. ده كان مكان شاف شتا قاسي ومبيعتذرش عن ده.
      
      جاسبر بطّل الموتور وقعد في السكوت. البرد اندفع لجوه، تقيل ونضيف، بيزحف جوه الكابينة كأنه كائن حي. التلج كان بيهمس على الإزاز، وبيحك في الكبوت. كان قادر يسمع أنين الأرض الخافت تحت وزن شهر يناير، صوت بلد قديمة كفاية إنها تفتكر كل شبح عدّى عليها.
      
      افتكرها تاني—لمستها على دراعه، صوتها ناعم بس مش مهزوز. "ده هيساعد." هو مسألهاش قصدها إيه. يمكن كانت شايفة حاجة. يمكن كانت شافتها هي. يمكن هو مكنش عايز يعرف.
      
      كل اللي كان يعرفه إن دي كانت نهاية الطريق.
      
      يا إما هو هيستحمل الشتا ده ويعديه، يا إما الشتا هو اللي هيقضي عليه.
      
      خيال اتحرك على البلكونة، مش واضح بسبب التلج. بعدين خيال تاني جنبه. شخصين، متلفحين في بالطوهات، مستنيين. أصحاب المزرعة، أكيد. الراجل طويل وعريض الكتاف، والست أرفع بس ثابتة، ملامحهم منحوتة من عمر من الشغل. ناس عاشت كتير مع الأرض وعرفت إزاي تستحملها.
      
      جاسبر خد نَفَس هو مكنش محتاجه وفتح الباب. البرد عض زي كلب صيد في عضم، حاد كفاية إنه يقطع حتى جلده الحجري. لأول مرة من شهور، حس بحاجة تانية غير إحساس الذنب اللي بياكل فيه. كان إحساس نضيف، وخام، ومبيرحمش.
      
      نزل قبعته لتحت، وحرفها ضلل على عينيه، وخرج في التلج.
      
      الأشباح مشيت وراه قريب.
      
      خشب البلكونة زيّق تحت وزنه وهو بيطلع، كل تزييقة صوتها عالي في سكون التلج. العاصفة مكنتش لسه بدأت، بس السما كانت لونها حديدي غامق، متعلقة تقيلة كأن السهل كله ناوي يقع عليه مرة واحدة.
      
      الشخصين كانوا واقفين مستنيين.
      
      الراجل كان عريض الكتاف، البالطو بتاعه مترقّع عند الكوع، وشه متقطع بخطوط عميقة كأنها منحوتة بالهوا. من نوع الرجالة اللي الأرض مش بس بتستحملهم، دي بتشكلهم. جنبه، الست كانت رفيعة وحادة، عينيها بتلمع زي حجر الصوان تحت حرف قبعتها. مكنتش بتتململ، ولا بتنقل وزنها. كانت بس بتبص له، ببرود وقطع، كأنها شايفة كل كدبة شالها مكتوبة بوضوح على جلده.
      
      جاسبر لمس طرف قبعته. "مساء الخير."
      
      "إنت العامل الجديد،" الراجل قال، من غير مقدمات ولا ترحيب. مجرد يقين قاطع لراجل شاف ميت مُشرد بينزلوا من ميت عربية.
      
      "أيوه يا فندم." صوت جاسبر طلع واطي وثابت. اللكنة بتاعته كانت ممدودة، بقايا من الجنوب عمره ما عرف يتخلص منها.
      
      الراجل مد إيده بالجوانتي. "أنا صاحب المكان. ودي مراتي. إحنا اللي ماسكين المزرعة."
      
      جاسبر مسك الإيد، سلم عليه بقوة. الراجل كانت مسكته زي الخشب، ناشفة ومبتتنيش. الست هزت دقنها بس، بس عينيها مسبتش وشه.
      
      "هتنفع،" قالت في الآخر، كأنها بتديله إفراج مشروط.
      
      الراجل لف ونزل من على البلكونة، جزمته بتعمل صوت على الأرض الناشفة. "طب يلا. نمشي ونتكلم. أحسن أعرفك على المكان قبل ما النور يروح."
      
      جاسبر مشي وراه، والعربية بتطقطق وبتبرد وراه. جزمتهم كانت بتغرس عميق في التلج اللي اتكوم، والهوا حاد كفاية إنه يقرص في البالطو والبنطلون.
      
      عدوا على الإسطبل الأول—مبنى طويل وواطي قاعد ضد الهوا، خشبه مسوّد من الزمن. حاجز ربط بره عليه خرابيش حوافر وسنان، وريحة الحصنة طالعة حتى في البرد. وراه، سقيفة العدة كانت مايلة تحت وزن التلج، الباب مقفول بجنزير.
      
      الراجل شاور وهما ماشيين. "الإسطبل ده مركزك الأساسي. أوضة العدة مقفولة—الراجل التاني هيديلك مفتاح. القش متكوم في السقيفة. متهدرش فيه. الأكل متقسم بالوزن والراس. هو هيفهمك الحسبة."
      
      الست قاطعته، صوتها زي السلك المشدود. "شغل الشتا مش هزار يا أستاذ. لو اتأخرت، المواشي هي اللي بتدفع التمن. إحنا مابنشغلش رجالة عشان سواد عيونهم."
      
      "حاضر يا فندم،" جاسبر قال. الكلمتين طلعوا هاديين، بس ثابتين. هو اتقيّم واتشاف قليل قبل كده؛ ده مكنش جديد.
      
      عدوا من جنب الحظاير، سياجها متغطي بالصقيع، والحبال ناشفة ومتعلقة زي تعابين ميتة. خط من عمدان السور كان ممدود ناحية التلال، السلك الشايك متني من التلج، من نوع الشغل اللي مبيخلصش أبدًا. عين جاسبر تابعت الأفق، مسطح ومفيش نهاية، مقبرة بيضا السما بتبلع فيها كل حاجة.
      
      "الشغل بسيط،" الراجل قال، مع إن نبرته وضحت إن بسيط مش معناها سهل. "أكل، تشييك على مواسير المية، تكسير تلج، تصليح سور. لما ييجي موسم الولادة هتشتغل لحد ما تقع من طولك. لحد وقتها، المطلوب بس إنك تحافظ على القطيع عايش."
      
      الست شخرت شخرة حادة. "وعلى نفسك كمان، لو عندك مخ كفاية لده."
      
      جاسبر هز راسه وبس. افتكر ساحات المعارك، وليالي كان بيحرس فيها الخطوط وريحة الموت تقيلة زي القطران، ومسيرة تحت شمس بتسلخ الجلد وبتسيب الرجالة عنيهم فاضية. البقاء مكنش جديد. البقاء كان كل اللي هو يعرفه.
      
      أخيرًا، سكن العمال بان. مبنى خشب واطي، سقفه متني تحت وزن التلج، ودخان رفيع بيلف وطالع من مدخنة بتزيّق في الهوا. جوز فوانيس كانوا بيرعشوا خفيف عند المدخل، نورهم بيرتعش قدام الضلمة.
      
      
      
      
      
      
      رويس وقف عند السلالم، وسند إيده على السياج. "هنا المكان اللي هتنام فيه. السراير مزنوقة. الدفاية بتبقى سخنة أوي لو فيه خشب كفاية. وايَت هيشوفك محتاج إيه."
      
      نظرة مابيل فضلت متعلقة بيه، قاسية ومبتتقريش. "هتاخد أوامرك من وايَت. ده الريّس بتاع العمال. اللي وايَت يقوله، تعمله."
      
      وايَت. جاسبر خبى الاسم في آخر عقله. تخيل راجل تخين من سنين شغل المزرعة، إيديه خشنة وحروق حبال، يمكن متعور، يمكن شايب. راعي بقر كسب ثقة آل جنسن شتا ورا شتا.
      
      جاسبر قال: "مفهوم."
      
      رويس زق الباب فتحه، وخرج نَفَس هوا دافي تقيل بريحة القهوة، والدخان، والعرق. ريحة رجالة، ريحة شغل، ريحة ليالي طويلة مقفول عليهم كويس ضد البرد.
      
      رويس قال: "هو ده. أهلاً بيك في إلكهورن."
      
      جاسبر وقف على العتبة، التلج بينقّط من حرف قبعته، وحرارة سكن العمال بتلمس وشه. وراه كانت ممتدة مراعي الشتا، فاضية ومبترحمش. قدامه مستنياه حياته الجديدة، والراجل اللي اسمه وايَت اللي هيمسك اللجام.
      
      خطى لجوه.
      
      الأشباح مشيت وراه قريب.
      
      هوا سكن العمال كان تقيل بالدخان والحرارة، من النوع اللي بيلزق في الحيطان بعد سنين من الشتا اللي عدّوا عليه. دفاية ببطن منفوخة كانت بتزمجر في الركن، بطنها الحديد بتتوهج، والمكان ريحته قهوة مغلية لحد ما بقت زي القطران، وجلد محطوط قريب أوي من النار، وصوف مبلول، وعرق. الجزم والبالطوهات مرمية على الأرض في كومات بإهمال، السراير مترصصة على الحيطان زي فتحات التوابيت، هياكلها مسوّدة من الزمن ومراتبها هابطة بذكرى الرجالة اللي عدّوا من هنا.
      
      على ترابيزة صنوبر طويلة كان قاعد اتنين عمال، وكوتشينة مفرودة بينهم. ضحكهم كان من النوع اللي بيتولد من رجالة اتعودوا زيادة عن اللزوم على الشغل التقيل والمشروب التقيل. واحد كان رفيع، بشنب، من نوع الوشوش اللي كأنها منحوتة بالهوا، والتاني عريض وخدوده حمرا، بابتسامة واسعة زي الوادي.
      
      رفعوا عينيهم لما جاسبر عدى من الباب. هو ميّل قبعته، بأدب زي ما اتربى.
      
      جاسبر قال، ولكنته ممدودة بهدوء بس بوضوح في الأوضة: "رويس قالي إني هاخد أوامري من راجل اسمه وايَت. حد فيكم هو ده؟"
      
      الرجالة انفجروا، والضحك فرقع عالي وحاد زي ضربة بندقية.
      
      "يا راجل يا طيب،" أبو شنب قال وهو بيشهق وبيمسح عينيه. "إنت فاكرنا إحنا وايَت؟"
      
      العريض خبط على الترابيزة، ولسه بيضحك. "دي حلوة دي. وايَت هتنفخك لو سمعت الكلام ده."
      
      جاسبر كشر، الكلمة منزلش صح في ودانه. فتح بقه عشان يسأل— وبعدين صوت قطع الضحك زي السكينة. واطي، ومنوّر، وحاد بخفة دم. حلو زي العسل، وأكيد زي جرس كنيسة، وسريع زي ضربة كرباج. صوت كأنه رن جوه عظامه، وسكّت كل شبح، وكل جوع.
      
      "في الحقيقة،" الصوت قال، ناعم زي الحرير وهو بيتسحب على الصلب، "أبقى أنا."
      
      جاسبر لف.
      
      كانت آية.
      
      الدنيا ضاقت على الخيال اللي ساند بكسل على عتبة الباب، مربعة إيديها، والضلمة مغطياها في نور الدفاية. كانت لابسة بنطلون قماش لونه باهت عند الفخاد، وجزمة متبهدلة على الآخر، وقميص متشمّر لحد كوعها. شعر أسود طويل نازل على ضهرها زي نهر في نص الليل، ونور اللمبة بييجي على خصلات منه لحد ما لمعت أسود مزرق. بشرتها كانت واخدة لون الشمس، سمرا ودافية، وشوية نمش متوزعين على قصبة مناخيرها.
      
      وعينيها—يا إلهي، عينيها. زرقا زي سما مونتانا في عز الصيف، وبتلمع زي مية التلج، وقوية كفاية إنها تشق راجل نصين من غير ما تطلع سكينة. عينيهم اتقفلت عليه، ثابتة ومبترمش، وجاسبر حس بحاجة جواه بتقع على ركبها.
      
      رابطة الرفيقة ضربته زي سيخ حديد محمي بالنار على روحه مباشرة.
      
      كانت كاوي، ومطلق، ومبيرحمش. كل حرب حاربها، وكل خطيئة شالها، وكل ميل هرب فيه—كله اتحرق في اللحظة دي، اتكوى فوقه بمنظرها. مكنتش مجرد ست. كانت هي العاصفة اللي بره، والنار اللي في الدفاية، والسبب إن الأرض لسه بتلف تحت جزمته. كانت هي الخلاص والجحيم في واحد.
      
      للحظة، جاسبر مقدرش يتنفس، مقدرش يتحرك. الأشباح اللي كانت بتطارده بقالها قرن سكتت، وطّت راسها كأنهم حتى هما عارفين إنهم اتهزموا. بلع ريقه بصعوبة، وقدر يطلع صوت من زوره اللي اتقفل. قبعته مالت، وصوته طلع خشن بس فيه تبجيل، زي صلاة في شكل كلمات.
      
      قال بلكنته الممدودة: "يا هانم. اسمي جاسبر هيل. لسه متعين كعامل."
      
      بقها اتقوس، ببطء وخبث، من نوع الابتسامة اللي على الجنب اللي بتوعد بمشاكل.
      
      قالت بصوت خفيف بس حاد: "غريبة. شكلك كأنك عمرك ما ركبت خيل يوم واحد في حياتك."
      
      الكلام كان المفروض يلسعه، بس بدل كده نزل حلو، واتغرس عميق. حس بشرارة مسكت في صدره، سخونة ملهاش دعوة بالدفاية. هي اتريقت عليه، ويا رب ساعده، هو عجبه ده. عجبه لسانها الحاد، وعجبته الطريقة اللي بصتله بيها كأنه مجرد مُشرد تاني تقيّمه وترفضه.
      
      ابتسامة بطيئة شدت بقه، من النوع اللي بييجي خطير وواثق. ركز وزنه كله في لكنته الممدودة، تقيلة زي العسل وحادة زي السيف. قال: "طيب يا حلوة. أنا معروف عني إني بفاجئ الناس."
      
      الدفاية طقطقت. الريح أنّت على الشبابيك. وجاسبر عرف، بيقين زي يقين الخطية، إن مفيش حاجة في دنيته هترجع زي ما كانت أبدًا.
      
      العاملين اللي على الترابيزة كانوا بيراقبوه زي الصقور، عينيهم بتلمع، وابتساماتهم حادة. ووراهم وقفت هي—الست اللي خلاص وصمت نفسها جوه عظامه بنظرة واحدة. وايَت روز يولي، ساندة براحة على العامود، مربعة إيديها، وعينيها زرقا لدرجة إنها ممكن تكون مسروقة من السما نفسها.
      
      قالت وصوتها ناشف زي التراب وأقطع منه مرتين: "المنظر الحلو اللي زيك ده. مش هيوديك في حتة هنا. الحلاوة مبتأكلش المواشي. الحلاوة مبتكسرش التلج. والحلاوة أكيد مبتصلحش سلك شايك في عاصفة تلجية."
      
      كلامها كان بيقطع، بس جاسبر حس بيه بينزل خفيف زي الريشة، زي مهماز بيعض كفاية بس إنه يخلي الحصان يجري أقوى. الرجالة اللي على الترابيزة ضحكوا، ورموا كوتشينتهم، مستنيينه يتلخبط.
      
      بس جاسبر متلخبطش. هو ميّل قبعته لتحت أكتر، ببطء زي العسل، مخبي الابتسامة اللي كانت بتهدد تطلع. صوتها، حاد زي الكرباج وناعم زي العسل، نزل عميق، وكل شوكة ربطته بيها أكتر.
      
      زقت نفسها من على العامود بالرشاقة الكسلانة بتاعة حد عارف إن الأوضة كلها مايلة ناحيتها. "السرير ده فاضي،" قالت وهي بتهز دقنها ناحية الحيطة البعيدة. "الملايات خشنة، الدفاية بتبقى سخنة لو أكلت خشب. الدولاب هناك للجزم، الحمام آخر الطرقة. القهوة دايمًا موجودة، مع إنك هتتمنى إنها متبقاش موجودة."
      
      جاسبر حط شنطته على السرير اللي شاورت عليه، الشنطة تقيلة ومفيهاش غير كام قميص، وجوانتيات، وكدب. سند إيده على العامود، ولف ضهره كفاية بس إنه يقابل عينيها. "متشكر أوي يا هانم."
      
      ده خلى حاجبها يترفع، ولمعة حاجة في نظرتها—فضول، أو يمكن مجرد تسلية. ربعت إيديها أكتر، شفايفها بتترعش ناحية ابتسامة على الجنب مبشرش بخير.
      
      "شغل الأكل بتاع الفجرية،" قالتله. "هو ده اللي هتثبت فيه نفسك. مش مهم كنت إيه قبل كده، مش مهم بتقول إنك تقدر تعمل إيه. لازم توريني. ولحد وقتها، إنت مجرد ولد حلو تاني لابس قبعة. فاهم يا راعي البقر؟"
      
      الكلمة نزلت زي القلم واللمسة في نفس الوقت. راعي بقر. قالتها كأنها نكتة، كأنها مش بتاعته، كأنها بتتحدّاه يكسبها.
      
      ويا رب ساعده، هو حبها.
      
      هو كان عايز لسانها الحاد، عايز العضة اللي في كلامها، عايز الطريقة اللي بصتله بيها كأنه يستاهل الاختبار. هو محَسش إنه عايش كده بقاله قرن—ولا في ساحة معركة، ولا في الدم. دي كانت حاجة تانية. حاجة أسخن.
      
      ساب ابتسامة بطيئة تلف على بقه، لكنته نزلت دافية وثابتة، صوت كان ممكن يبقى صلاة لولا السخونة اللي فيه. "أظن إني هكون موجود مع الفجر يا هانم. وناوي أفاجئك."
      
      ضحكت، ضحكة سريعة وشقية، ولفت ناحية المطبخ. جزمتها خبطت خبطة فاضية على الخشب، الصوت حفر نفسه في ذاكرته. رمت الكلمة من فوق كتفها: "هنشوف يا راعي البقر."
      
      الدفاية فرقعت. الرجالة اللي على الترابيزة لموا كوتشينتهم، وبيقولوا تصبحوا على خير بصوت واطي. الجزم اترمى على الأرض، البطاطين خشولت، السكوت نزل على الرجالة الشغالة وهما بيناموا. واحد ورا التاني، السراير اتملت بالنَفَس الثابت، وهمهمة الدفاية هي دقة القلب الوحيدة اللي باقية في الأوضة.
      
      جاسبر فرد جسمه على سريره، قبعته مايلة لتحت، ولسه لابس جزمته. مكنش محتاج النوم، ومكنش هيلاقيه حتى لو حاول. بدل كده فضل ثابت، عينيه مركزة على سقف الأوضة، وطعم ضحكتها لسه بيحرق في صدره.
      
      وايَت. الريّسة. الوصمة. الخلاص والجحيم.
      
      عرف وقتها، بيقين زي أي قسم في ساحة معركة، إنه هيجرف تلج لحد ما عظامه تتكسر، ويمد سلك شايك لحد ما إيديه تتقطع، ويبقى راعي بقر للأبد وطول الأيام—طالما ده هيخليه قريب من نارها.
      
      الأشباح فضلت ساكتة، اسكتها حاجة أقوى منها.
      
      صوتها هي بس اللي بقى بيطارده دلوقتي.
      
      

      Pages