الأقسام

قصص تاريخية

... ...

قصص فانتازيا

... ...

قصص رعب

... ...

قصص رومانسية

... ...

قصص مخصصه لك

    قصص المختلط

      سنة في القديسة مارثا - قصه للكبار

      سنة في القديسة مارثا

      بقلم,

      للمراهقين

      مجانا

      بنت متمردة ومشاكلها كتير، أهاليها (أبوينها الاتنين) زهقوا منها وقرروا يبعتوها مدرسة داخلية في إنجلترا غصب عنها عشان تتعدل. بتوصل هناك وهي كارهة المكان، وبتحس بالوحدة وإن أهلها اتخلوا عنها. بتقابل زميلتها في الأوضة "ميجان" اللي شكلها لطيفة بس مصدومة من ماضيها. وبتقابل المُشرفة الأمريكية "آنسة بوين" اللي شكلها حلو بس شديدة، وبيبدأ بينهم تحدي من أول يوم.

      إيفي

      بتعمل مشاكل كتير (اترفدت قبل كده بسبب خناقات وبيع مخدرات). بتحس إنها اتسابت واتخذلت، وبتحاول تبين إنها قوية ومبتعيطش، بس هي مرتبطة جدًا بأبوها "تومي" وأخوها "أوين".

      آنسة بوين

      مُشرفة السكن ومُدرسة التاريخ والإنجليزي. أمريكية زي إيفي، جميلة جدًا وهادية، بس في نفس الوقت صارمة ومش بتسمح لإيفي تتجاوز حدودها (بترفض تقولها "إيفي" وبتصمم على "إيفلين" عشان تعلمها الاحترام).

      ميجان

      زميلة إيفي في الأوضة. بنت لطيفة وودودة، بس على نياتها شوية ومتربية كويس، واتصدمت لما عرفت ماضي إيفي.
      سنة في القديسة مارثا - قصه للكبار
      صورة الكاتب

      أنا زودتها أوي المرة دي. الحدود اتكسرت، والمرة دي، يمكن، باظت لدرجة مينفعش تتصلح.
      
      أبويا كان باين عليه التعب وهو بيدعك صدغه الأسمر، عينيه مقفولة، وكتافه واقعة. إيده اليمين كانت ماسكة الجواب، مكرمشاه ومطبقاه في قبضته اللي عمالة تضيق أكتر. رفع وشه للحظة لما أبويا التاني دخل الأوضة، وراح واقع على الكنبة جنبه وهو بيهز راسه. هو كمان، كان باين عليه مهزوم. بلعت ريقي، وحسيت بتوتر غريب وخيبة أمل من نفسي. هما طول عمرهم بيحاولوا على قد ما يقدروا يدوني أحسن عيشة ممكنة. كانوا عايزين أكتر من أي حاجة إن أنا وأخويا نكون مبسوطين. بس زي ما قلت، أنا زودتها أوي المرة دي؛ أنا خليتهم يبعدوا عني.
      
      "إيفلين،" أبويا بدأ كلامه. يا نهار أبيض، إنه يستخدم اسمي الكامل دي عمرها ما كانت علامة كويسة. "أنتي بالعافية كملتي تلات شهور في المدرسة دي. الموضوع ده مبقاش نافع خلاص."
      
      كشرت حواجبي. "أغلب الوقت أنا اللي كنت بستفز. يعني أنتوا بجد متوقعين مني أقعد ساكتة وأستحمل كل القرف اللي بيترمى في وشي ده؟"
      
      "احترمي كلامك،" أبويا التاني، كريستوفر، اتنهد، وهو بيرفع راسه شوية عشان يبصلي لأول مرة الليلة دي. "يا إيفي، إحنا مش هنفضل نوديكي مدارس و يجيلنا كل يوم جوابات وتليفونات إنك بتتخانقي أو بتعملي مصايب. ده مش عدل علينا ومش عدل على المدرسة." قلبت عينيا. ولا كأن المدرسة هممها. "دي آخر سنة ليكي في المدرسة، أنتي محتاجة تركزي بجد دلوقتي. واحد صاحبي في الشغل كان عنده مشاكل مع بنته من كام سنة فاتوا. كانت في نفس سنك وقتها، وبتتصرف بالظبط بنفس الطريقة. هو ومراته لقوا مدرسة شكلها كده بتساعد العيال اللي زيك. دي مدرسة داخلية، في ديفون."
      
      "ديفون؟" سألت. "فين دي كمان إن شاء الله؟" أياً كان مكانها فين، أكيد مكان زي الزفت وممل.
      
      كريستوفر عض على طرف شفته اللي تحت، وشوية قلق بدأوا يظهروا على ملامحه. "دي في الريف، في إنجلترا." هو قال آخر كلمتين بصوت أوطى شوية من الباقي، كأنه كان بيتمنى إنهم يعدوا من وداني من غير ما أسمعهم، وهما تقريبًا عملوا كده.
      
      وشي وقع للحظة بس قبل ما أستجمع نفسي ورجعت بضهري على الكرسي، ورجلي على رجل. "طبعًا، طب كويس أراهن إنك هتتبسط أوي هناك يا بابا. هبقى مستنية منك كارت بوستال،" ابتسمت، وصوتي كان بارد وساخر، رغم إن قلبي كان بيدق جامد تحت ضلوعي.
      
      تنهيدة تانية، المرة دي من تومي. "يا إيفي، إحنا اتكلمنا مع المدرسة وهما أكتر من مبسوطين إنهم ياخدوكي. هتبدئي الفصل الدراسي في سبتمبر وهتقعدي هناك طول السنة. أنا آسف، بس الموضوع ده مفيش فيه نقاش."
      
      جزيت على سناني، وفكي قفل. كنت حاسة بغضب مولع نار بيجري في عروقي كأن سد اتكسر فجأة وكل حاجة بتهرب بسرعة رهيبة. هما بيبعتوني بعيد. أهلي بيبعتوني بلد تانية لمدة سنة. هو أنا للدرجة دي وحشة؟ هو أنا بجد، بجد أستاهل ده؟ أنا اتخانقت، وشربت سجاير، وعملت مشاكل وسببت لأهلي صداع دايم، بس هو عادي إن الواحد يتخلى عن عياله؟ أنا اتسابلي مرة قبل كده، ودلوقتي بيحصل تاني.
      
      "مش هتقدروا تجبروني،" عرفت أرد من بين سناني، وإيديا مقفولة في حجري. كنت حاسة ضوافري بتغرز في جلدي، بس مكنش فارق معايا. "هتعملوا إيه يعني، هتجروني لإنجلترا من قفايا؟ أنا مش عيلة صغيرة."
      
      "أنتي ممكن تخلي الموضوع سهل علينا وعليكي، أو ممكن تخليه صعب جدًا. في كل الأحوال، أنتي رايحة. إحنا هناخدك قبل ما الدراسة تبدأ بأسبوع في آخر أغسطس، بس عشان تاخدي على المكان."
      
      هزيت راسي، وعينيا كانت بتلف في الأرض، بحاول أحبس الدموع اللي بتحرق عيني ومخلية الرؤية مشوشة. أنا مبعرفش أعيط قدام أي حد. ده بيخليني ضعيفة، وأنا عمري ما هعمل كده. أهلي كانوا دايمًا بيحاولوا يقنعوني إن العياط عادي، بس حتى وأنا موجوعة أكتر حاجة، عمري ما خليت دمعة واحدة مالحة تنزل من عيني. مقدرش أوطي نفسي للدرجة دي.
      
      "إيفي،" صوت واطي جه من عند الباب. مَرفعتش راسي، عشان خايفة دموعي تبان، بس أنا كنت عارفة الصوت الخجول ده بتاع مين. أخويا الصغير أوين دخل شوية كمان جوه الأوضة وأنا سامعة خطواته بتقرب. "أرجوكي اعملي كده. أنا مش عايزك تبقي شقية تاني. أنا بزعل أوي لما بتقعي في مشاكل." كنت سامعة الرعشة في صوته، وده كان هيموتني من الحزن.
      
      دقيقة عدت في سكوت، وكان سكوت يصم الودان.
      
      هو إني أوجع عيلتي كان أسهل من إني أسافر بعيد عشان أبدأ حياة مختلفة لمدة سنة؟ لأ، مكنش أسهل خالص. مفيش حاجة تتقارن بالألم الوحيد بتاع إنك تبقى عارف قد إيه خيبت أمل الناس اللي بتحبهم. مفيش حاجة خالص.
      
      "ماشي،" قلت في الآخر، وصوتي مبحوح ومخنوق. "أنا هروح. هجرب، هجرب بجد. بس لو كرهت المكان بعد أول فصل دراسي، ممكن أرجع البيت؟"
      
      شفت الراحة وهي بتغمر عيون أهلي. أبويا خد نفس ببطء قبل ما يهز راسه. "ماشي يا بنتي. بس أرجوكي، اوعدينا إنك هتدي الموضوع ده فرصة بجد."
      
      عضيت على شفتي، وبصيت في الأرض قبل ما أرفع راسي وأقابل نظرتهم. "أوعدكم."
      
      وده كان الوعد اللي غيّر حياتي.
      
      
      
      
      
      "ريحة المكان زي الزفت."
      
      كنت حاسة بأبويا بيقلب عينيه جنبي وإحنا قاعدين ورا في عربية الأجرة، ومعديين في الريف الإنجليزي تحت شمس أغسطس. بصراحة، أنا كنت مستغربة إن السما مكنتش بتمطر جامد أول ما وصلنا، لإنه شكل إنجلترا دي مشهورة بجوها الوحش، بس زي ما السواق بلغني بسرعة، "الجو الحلو ده مش هيطول يا حبيبتي، أنتي بس استني وشوفي."
      
      على يميني، أبويا لف عشان يبصلي. هو جه معايا إنجلترا، في حين إن أبويا التاني، كريستوفر، فضل هناك عشان ياخد باله من أوين. هما مكنوش شايفين إنها فكرة كويسة إنه ييجي معانا؛ أوين عيل لزقة أوي، ودايمًا كنت بلاقيه متعلق في رجلي زي الجرو. الموضوع كان صعب عليه، إنه يضطر يقول سلام، وبصراحة، كان صعب عليا أنا كمان، مع إن ده مكنش حاجة أنا مبسوطة إني أعترف بيها.
      
      "دي أكيد ريحة البقر،" أبويا قال وهو بيقلب عينيه مرة تانية. "اسمعي، إحنا قربنا نوصل، بس أنا بس كنت عايزك تعرفي قد إيه أنا وأبوكي فخورين بيكي إنك كملتي في الموضوع ده. أنا عارف إن ده هيبقى صعب عليكي، خصوصًا أول كام أسبوع. بس افتكري دايمًا إن إحنا على بُعد مكالمة تليفون، ماشي يا بنتي؟"
      
      ابتسمت نص ابتسامة وهو بيبعتر شعري وباسني من قورتي. ابتسامتي اختفت لما رجعت بصيت للشباك تاني، والقلق بيزيد جوايا. أنا كنت مصممة إني مبينش إني متضايقة أوي؛ كنت عارفة إن ده هيزعله بس. أنا وتومي كنا دايمًا قريبين من بعض؛ أنا بحب أبويا التاني طبعًا، بس هو كان دايمًا مشغول يا إما بالشغل يا إما بأوين. تومي كان موجود عشاني في أي وقت كنت بحتاجه، وأنا عارفة قد إيه كان موجوع إنه مضطر يبعتني بعيد. هو كان أحسن صاحب ليا، ومن غيره، مكنش عندي أي حد تاني.
      
      فقت من سرحاني لما لفينا من على زاوية ووقفنا قدام مبنى ضخم، شكله قديم أوي. أنا كرهته خلاص. بره كان فيه كام مجموعة بنات واقفين، لابسين قمصان بيضا مدخلينها في جيبات كاروهات أبيض في أسود طولها لحد الركبة. بقي اتفتح من القرف وأنا ببص على الزي الموحد. السواق فتحلي الباب قبل ما يلف يروح شنطة العربية عشان يجيب شنطي، اللي حطها جنب العربية. لفيت لأبويا، اللي كان بيبصلي بلمعة توسل في عينيه.
      
      "متحكميش عليه من دلوقتي يا إيفي. مين عارف، يمكن تحبي المكان هنا أوي يا بنتي." هو فتح بابه ونزل، ولف من ورا العربية لحد ما جه جنبي. مد إيده وأنا مسكتها غصب عني، وأنا بحط رجلي على الممر اللي كله زلط.
      
      واحدة ست طويلة، شكلها في نص الخمسينات، قربت مننا وهي مبتسمة. كان شعرها غامق، ماعدا الخصل الفضية اللي ضاربة فيه، ومدت إيدها لأبويا، وهي بتسلم عليه. "أكيد حضرتك مستر لويس."
      
      أبويا هز راسه. "أرجوكي، قولليلي تومي. شكرًا جدًا إنك اديتي لبنتنا الفرصة دي. إحنا بجد متشكرين."
      
      "أكيد،" ردت بابتسامة تانية، وعينيها جت عليا. مدت إيدها ليا المرة دي، وقالت، "إيفلين، يا لها من سعادة. أنا مدام فينشلي." سلمت عليها، بس مردتش الابتسامة، وبدلًا من ده اتجنبت أبص في عينيها وقعدت أبص حواليا في أرض المدرسة. "أنا هسيبك تقولي سلام لأبوكي. سعدت بلقائك يا مستر لويس." ومع الكلمة دي، لفت ومشت بعيد بالراحة.
      
      بصيت لأبويا، وأنا برمش وبعضعض في خدي من جوه عشان أمنع نفسي من العياط. هو فتح بقه عشان يتكلم، بس أنا رميت دراعاتي حوالين رقبته، وحضنته جامد. شميت ريحته المألوفة لآخر مرة وغمضت عيني جامد للحظة، قبل ما أبعد.
      
      "أشوفك قريب يا بنتي،" هز راسه، ودمعة في عينه وهو بيبوسني من خدي ولف، وركب في الكنبة اللي ورا في العربية.
      
      "سلام يا بابا،" همست وهو بيقفل الباب والسواق بيدور الموتور. اتفرجت على العربية وهي بتلف وترجع تاني في الطريق الريفي الملتوي لحد ما اختفوا عن عيني. حسيت فجأة بإحساس عميق بالوحدة مسيطر عليا وأنا واقفة وكل حاجتي في شنط على الأرض قدام عينيا.
      
      "إيفلين؟"
      
      رفعت وشي، وشفت مدام فينشلي واقفة قدامي مرة تانية.
      
      "أنا مش هعمل نفسي إن الموضوع ده مش هيكون صعب، بس أنتي هتتعودي على الدنيا هنا،" هي حاولت تطمني، بس أنا حسيت بالعكس تمامًا. "تعالي ورايا، هوريكي أوضة سكنك وهناك هتقابلي قائدة السكن بتاعتك. هي هتعملك جولة في باقي المدرسة. سيبي شنطك، حد هيطلع يجيبهم لأوضتك كمان لحظة." هي بدأت تمشي وأنا مشيت وراها جنبها.
      
      "قائدة سكن؟" سألت.
      
      مدام فينشلي هزت راسها بابتسامة. "كل جناح فيه حوالي عشر غرف سكن. كل جناح متعين عليه مدرسة واحدة، وعندها أوضة هناك. هما هيبقوا موجودين عشان يجاوبوا على أي أسئلة، يحلوا أي مشاكل، ويتأكدوا إن الكل ماشي على القواعد. لو أنتي مش متأكدة من حاجة أو عندك مشكلة، قائدة السكن بتاعتك هي أول حد تروحيله." هي طلعت ورقة من سترتها الكحلي، فردتها و بصت في الكلام بسرعة. "أه أيوة، أنتي في جناح نايتنجيل. ده مش بعيد أوي، تعالي ورايا يا آنسة لويس."
      
      "نايتنجيل؟"
      
      "ده اسم الجناح بتاعك. كل جناح متسمي على اسم ست مهمة في التاريخ. في حالتك، الجناح بتاعك متسمي على اسم فلورنس نايتنجيل. أفترض إنك سمعتي عنها؟"
      
      هزيت راسي.
      
      "كويس. بصي يا آنسة لويس، هنا في مدرسة القديسة مارثا للبنات، إحنا بنقبل بنات من كل الخلفيات. بس، إحنا عندنا هدف واحد ليهم كلهم: إننا نضمن إنهم يسيبوا المدرسة دي وهما شابات متزنات، ومحترمات وعندهم فرصة في مستقبل مشرق. فاهمة؟" مرة تانية، هزيت راسي. "إحنا عندنا قواعد هنا يا إيفلين. ممكن تاخد شوية وقت، بس أنتي هتتعلمي تلتزمي بيها."
      
      "شكله سجن ده،" تمتمت، وأنا بتنهد بصوت عالي.
      
      إحنا كنا جوه المبنى دلوقتي، طالعين على سلم ماهوجني ملفوف. في الآخر، وصلنا لباب، اتفتح على طرقة طويلة، فيها حداشر باب متوزعين على الجناب. هي خدتني لتالت باب على إيدنا الشمال، وفتحته بمفتاح وبعدين حطته في إيدي.
      
      "خلي ده معاكي. لو ضيعتي مفتاحك، هتضطري تدفعي 5 جنيهات عشان واحد بداله."
      
      قلبت عينيا. "لا سمح الله."
      
      جوه الأوضة كان فيه سريرين، واحد على كل جنب في الأوضة. السرير اللي على اليمين كان باين عليه متاخد خلاص، وعليه مجموعة مخدات ألوانها فاقعة متوزعة عند راس السرير. كان فيه دولابين، برضه على كل جنب في الأوضة، ووحدة أدراج على شمال الباب. مراية بطول الجسم كانت متعلقة على الحيطة جنب الشباك، وسجادة بيضا صغيرة مفروشة على الأرضيات الخشب.
      
      "شكله كده سريرك هو اللي على الشمال. خدي راحتك، وأنا هبلغ قائدة السكن بتاعتك إنك وصلتي. هيبعتولك جدولك قريب. الحصص هتبدأ الأسبوع الجاي." هي لفت ومشت ناحية الباب، قبل ما تقف لحظة وتلف تاني. "أهلًا بيكي في القديسة مارثا يا آنسة لويس."
      
      استنيت لحد ما الباب قفل و عمل صوت تكة عشان أروح ناحية السرير الشمال، وقعدت عليه ورفعت ركبي على صدري. سندت راسي على الحيطة، وغمضت عيني وخدت نفس عميق.
      
      "اجمدي بقى يا إيفي،" همست لنفسي، وأنا بعض شفتي وبترجى نفسي متعيطش. "بطلي هبل بقى."
      
      خمس دقايق أو حاجة عدوا قبل ما حد يخبط على الباب تلات مرات. رمشت بسرعة، وأنا بتمنى عينيا متبانش إنها مدمعة، قبل ما أقول بصوت واطي "ادخل."
      
      
      
      
      
      الباب اتفتح، وواحدة ست دخلت. كانت لابسة فستان أسود ضيق لحد ركبتها، وكعب عالي أسود. شعرها البني الكتير كان نازل على كتفها اليمين في موجات ناعمة. عينيها الغامقة جت في عينيا، ولقيت نفسي ببحلق فيها، مستغربة إزاي واحدة بالشكل ده ممكن تشتغل في مكان كئيب زي ده. جمالها كان مفيش عليه كلام.
      
      شيلت عيني من عليها، وفوقّت نفسي من السرحان، ووجهت أفكاري لمسارات أأمن وأنا بحاول أصدق إني لسة كنت معجبة بواحدة غالبًا يعني مدرسة. هي راحت ناحية سريري، وابتسامة مرسومة على شفايفها الوردية اللي بتلمع. "أنتي إيفلين، صح؟" أنا اتفاجئت من لهجتها. أمريكية؟
      
      "إيفي، في الحقيقة،" رديت ببرود.
      
      هي مابانش عليها إنها اتفاجئت من نبرتي. "عمومًا، دي حاجة لطيفة إن فيه واحدة أمريكية زيي موجودة هنا. أنا آنسة بوين، قائدة السكن بتاعتك. أنا كمان هدرسلك تاريخ ولغة إنجليزية."
      
      "تمام."
      
      آنسة بوين فضلت تبصلي كأنها بتدرسني لكام لحظة، وعينيها بتلف على وشي. "عندك مانع لو قعدت؟" هي شاورت على المكان الفاضي جنبي على السرير.
      
      هزيت كتفي. "لو مصممة يعني."
      
      هي قعدت جنبي، وحطت رجلها الشمال على اليمين وعدلت جسمها عشان تبقى في وشي. راسها مالت شوية شمال، وابتسامتها اختفت. بدلًا من ده، نظرة تفهم وراحة زحفت ورا عينيها. "الموضوع صعب، مش كده؟"
      
      "مش أوي."
      
      للحظة، هي سكتت. "مش لازم تكدبي عليا يا إيفلين. أنا عارفة أكتر من أي حد الموضوع ده ممكن يكون صعب قد إيه."
      
      "إيفي. اسمي إيفي."
      
      تنهيدة طلعت من شفايفها. "يلا، خليني أفرجك على المكان."
      
      غصب عني، مشيت وراها وهي بتفرجني على المدرسة، ورتني الملعب الكبير اللي بره، والفناء، وقاعة الأكل، والفصول اللي هستخدمها. أربعين دقيقة عدوا لما أخيرًا وصلنا أوضتي تاني، في الوقت ده كله أنا كنت تمتمت بإجمالي تلات كلمات للست دي، كلهم كانوا يا أه يا لأ.
      
      "أوضتي أهي،" هي شاورت على الباب اللي في أول الطرقة، على بعد كام متر بس من أوضتي. "لو احتجتي أي حاجة، خبطي بس. العشا الساعة خمسة، يعني قدامك حوالي نص ساعة تظبطي دنيتك. شنطك المفروض تكون في أوضتك خلاص. ماشي يا إيفلين؟"
      
      "هو أنتي عندك زهايمر؟ كام مرة كمان لازم أقولك إنه إيفي؟ اسمي إيفي،" زعقت بغضب. كان نفسي أهزها. أنا يادوب بقالي هنا خمس دقايق وحد قاصد يعصبني.
      
      وش آنسة بوين كان هادي ومفيش عليه أي تعبيرات. اتنهدت تنهيدة صغيرة. "الواحد بيستخدم الاسم اللي الشخص بيفضله لما يكون فيه احترام متبادل بينكم. أنا مش شايفة أي حاجة من دي دلوقتي يا إيفلين." هي لفت ودخلت أوضتها، وسابتني واقفة في الطرقة، لوحدي ومتعصبة على الآخر.
      
      وأنا راجعة أوضتي، لمحت بنت، غالبًا زميلتي في الأوضة، قاعدة على سريرها، وبتقلب في مجلة. هي رفعت وشها لما دخلت، وهي بتحط شعرها الأشقر المحمر اللي طوله لحد كتفها ورا ودنها.
      
      "أهلًا،" هي رحبت بابتسامة، ورمت المجلة على جنب وقامت وقفت. "أنا ميجان. أفهم من كده إنك زميلة الأوضة الجديدة اللي عمالين يقولولي عليها؟"
      
      هزيت راسي. "إيفي. وأه، شكلها أنا."
      
      هي ابتسمت ابتسامة عريضة، وأنا كشرت ومكنتش فاهمة. "معلش، أصل غير آنسة بوين، إحنا مبيجلناش أمريكان هنا. لهجتك جامدة."
      
      "شكرًا،" تمتمت، بأكبر ابتسامة قدرت أطلعها.
      
      لما شفت شنطي جنب سريري، بدأت أفك حاجتي، وأعلق هدومي في الدولاب وأطبق باقي حاجتي في الأدراج.
      
      "المهم، أنتي هنا ليه؟" سألت ميجان وهي بتفتح مجلة جديدة وبتبدأ تقرا في أول صفحة.
      
      ميجان بصتلي. "هنا ليه إزاي؟"
      
      "أيوة، قصدي عملتي حاجة وحشة؟"
      
      هي ضحكت، كأني قولت نكتة. "لأ. أهلي شداد شوية، بس أنا عمري ما عصيتهم. دي مش مدرسة بتاعة العيال بتوع المشاكل بس، أنتي عارفة. ده مكان ليه اسم كبير أوي. هما متخصصين طبعًا في إنهم يخلوا العيال الزبالة يمشوا على الصراط المستقيم، بس إحنا مش بيجيلنا منهم كتير،" هزت كتفها، وهي بتلف على جنبها وبتضيق عينيها. "طب وأنتي عملتي إيه؟"
      
      "أنا اترفدت من آخر مدرستين ليا."
      
      عينين ميجان وسعت. "يا نهار أسود. ليه؟"
      
      هزيت كتفي. "مخدرات، خناق، سجاير، قلة أدب عامة، كده يعني. كل الهري المعتاد ده."
      
      ميجان اتعدلت في قعدتها، وتعبيرات وشها كانت هتخليني أضحك. "مخدرات؟ أنتي بتشربي مخدرات؟ يا إلهي، من وسط كل الناس أتحط في أوضة مع واحدة مدمنة."
      
      "إيه، أنا مش مدمنة يا حاجة،" رديت وأنا بقلب عينيا. "لأ، أنا مش بشرب مخدرات. أنا بس كنت ببيعها شوية. فلوس سهلة، بصراحة. بس المدرسين معجبهمش الموضوع أوي؛ اترفدت في ساعتها."
      
      "يا إلهي،" قالت وهي متنحة، مع إني مكنتش شايفة إن الموضوع كبير أوي. "المهم، أحسنلنا نمشي. العشا كمان خمس دقايق. ممكن تقعدي معايا لو حبيتي."
      
      هزيت كتفي. "ماشي." كان إحساس غريب إن حد يعرض عليا أقضي وقت معاه. الناس دايمًا كانوا بيعوزوني بس لما يكونوا محتاجين حاجة. كان إحساس صعب إن الواحد يبقى مستغل.
      
      العشا كان عادي جدًا. أنا قعدت جنب ميجان وبنت تانية من جناح نايتنجيل اسمها كلاريس، كانت باين عليها لطيفة، بس يمكن رغاية شوية. الساعة ستة، كان مسموحلنا نرجع أوضنا، أو، بما إن الدراسة لسة مبدأتش، نروح نقعد مع الناس في الأوضة المشتركة. مع إن ميجان كانت رايحة هناك مع كلاريس، وعزمت عليا أروح معاهم، أنا رفضت، وقلتلها إني لسة عندي حاجات مفكتهاش. مكنش عندي، بس أنا كنت هموت على شوية هدوء وسلام.
      
      وأنا داخلة الجناح بتاعنا، لمحت آنسة بوين جاية في نفس الاتجاه من طرقة تانية. اتقابلنا عند الباب في نفس اللحظة، وهي فتحتلي الباب عشان أعدي.
      
      "شكرًا،" هزيت راسي.
      
      "العفو،" آنسة بوين ردت. "إيه رأيك في العشا؟"
      
      مكنتش فاهمة هي ليه أصلًا مهتمة، فهزيت كتفي. "كان كويس." لفيت بعيد، ومسكت أوكرة باب أوضتي.
      
      "الدنيا هتبقى أسهل،" قالت من ورايا.
      
      وقفت لكام لحظة. ولما لفيت، بابها قفل وعمل تكة. آنسة بوين كانت مشيت. رحت على الركن في الأوضة المعتمة اللي نورها مطفي، ومتعبتش نفسي أنور أي نور، وقعدت وضهري لازق في الحيطة السقعانة. تيار هوا خفيف من الشباك خلى جلدي يقشعر، وأنا اترعشت. حالة جبارة من الإحساس بالهجران بلعتني كلها؛ أنا كنت لوحدي مرة تانية.
      
      

      روايه الجميله وراعي البقر

      الجميله وراعي البقر

      بقلم,

      تاريخية

      مجانا

      بنت اسمها نويمي، أبوها السكير والمفلس بيبيعها لراجل غريب عشان يسدد ديونه بعد الحرب. بتسافر معاه بالقطر لبلد جديدة في الغرب الأمريكي، وهناك بتقابل الراجل اللي اشتراها، "راعي بقر" وسيم وغامض اسمه ريفن بلاكستون. بتكتشف إن البيعة دي عبارة عن جوازة غصب عنها لازم تتم فوراً في الكنيسة. بعد مراسم باردة، بتسيب أبوها وتمشي مع جوزها الجديد لمصير مجهول. نويمي بتقرر إنها لازم تكون قوية وتنجو بحياتها الجديدة مهما كانت صعبة.

      نويمي

      رغم الظروف اللي هي فيها. أبوها "باعها" عشان يسدد ديونه. هي خايفة بس مصممة تكمّل وتعدي من الأزمة دي، وعندها كبرياء خلاها متخافش تواجه "ريفن".

      ريفن بلاكستون

      "راعي البقر" اللي اشترى نويمي. راجل وسيم بشكل قاسي، وشه مليان ندوب، وغامض جداً. باين عليه إنه مسيطر والناس بتخاف منه. بارد ومبيتكلمش كتير، لكنه أظهر جانب حنين لما هدأ نويمي وقت نوبة الهلع بتاعتها

      والد نويمي

      راجل سكير ومفلس رجع من الحرب. باع بنته مقابل الفلوس عشان يسدد ديونه. شخصية ضعيفة ومنهارة، وكل اللي همه الفلوس والويسكي.
      الجميله وراعي البقر
      صورة الكاتب

      نويمي
      
      القعقعة المنتظمة لقضبان القطار تتردد أصداؤها عبر المقعد الخشبي تحتي، اهتزاز ثابت يرتجف في عمودي الفقري ويصل إلى عظامي. الهواء داخل عربة القطار ثقيل بروائح أجساد لم تُغسل، وصوف رطب، وتبغ محروق لاذع، لكن كل ده مكنش مهم—طالما عيناي مُثبتتان على الدنيا التي تجري مسرعة خلف نافذة عربة الطعام.
      
      الزجاج بارد على أطراف أصابعي وأنا أضغط يدي عليه، أراقب المشهد المهزوز يتكشف مثل صفحات قصة لم أقرأها من قبل.
      
      السماء زرقاء باهتة، من النوع الذي يبدو وكأنه مشدود أكثر من اللازم، والأرض تحتها تمتد في موجات لا نهاية لها من العشب الذهبي، مرقطة ببقع من الخضرة العنيدة. ثم، يبطئ القطار مع اقترابه من منعطف، وتصبح الدنيا أوضح.
      
      أنفاسي اتحبست لما رأيت ما أمامي.
      
      هناك، على ضفاف النهر الأزرق الصغير، تقف ذئبة رمادية مع جرويها، فراؤهم الفضي يتموج في الريح، رطب وملتصق بالطين العالق ببطونهم. كانوا يمزقون البطون الطرية لسمك نفق على الشط، أسنانهم الصغيرة تنهش اللحم بشراهة وهو يلمع في ضوء آخر النهار.
      
      الذئبة الأم تقف فوقهم، عضلاتها مشدودة تحت فرائها، أذنيها منتصبة نحو القطار. عيناها الذهبيتان تلتفتان إلى النوافذ، إلى القطار المتباطئ، وتتثبت في عينيا لثانية وجيزة بينما تمر عربتي بجانبها. شعرت بشيء يقبض جوه صدري.
      
      كانت تراقبني حتى اختفت عن نظري. ليس خوفاً، ولا فضولاً، ولكن كتحذير.
      
      هي تعرف أن عليها إبقاء صغارها قريبين منها، لحمايتهم من الأخطار التي تتربص بهم داخل البرية وخارجها.
      
      حاجة كان نفسي حد يعملها علشاني.
      
      أطلق القطار صُفارة طويلة ومجوفة، تشق الهواء زي السكينة لتُعلمنا أننا على بعد أميال قليلة من وجهتنا، فرفعت الذئبة الأم رأسها أعلى، وفتحات أنفها اتسعت.
      
      هي عارفة الصوت ده معناه إيه. وإحنا معنانا إيه. دفعت جرويها أقرب إلى الغابة خلفها، بعيداً عن الضجيج، بعيداً عن السكة التي تفصل البرية عن البشر اللي مسميين نفسهم أسيادها.
      
      هنا، هي فريسة. مبقتش مفترسة.
      
      وإحنا اللي بقينا المفترسين.
      
      الفكرة جعلت معدتي تتقلب. أصابعي انكمشت على الزجاج. الذئبة لم تهرب. وقفت مكانها، متثبتة في الأرض، تحدق في الوحش الحديدي الذي يحملني بعيداً عن كل شيء عرفته يوماً. أتساءل إن كانت تشعر بنفس الشد في صدرها، نفس الوجع المتململ الذي يخبرها أن تهرب قبل فوات الأوان.
      
      ثم، بينما بدأت آخر عربة في القطار بالمرور، خفضت رأسها واختفت وسط العشب الطويل، وجرويها يتبعانها كالظلال. اللحظة راحت، ابتلعتها حركة القطار الأمامية التي لا ترحم، لكنها بقيت عالقة في عظامي.
      
      أتساءل إن كانت ستفكر بي الليلة تحت ضوء القمر، بنفس الطريقة التي أعرف أنني سأفكر بها.
      
      القطر اهتز وبطّأ سرعته، عجلاته الحديدية تصدر صريراً فوق القضبان، وأبي يتمايل على الشباك المقابل لي، رأسه تخبط خبطة مكتومة في الإزاز. تمتم بشيء غير مفهوم، كلماته متهدجة وضائعة وسط القعقعة المنتظمة لعربة القطار.
      
      ريحة الويسكي فايحة منه في موجات، تقيلة وتخنق، تقلب معدتي أسوأ من تأرجح القطر نفسه. أدرت وجهي نحو النافذة مرة أخرى، أبلع ريقي ضد الغثيان، لكن هذا لم يساعد. لا شيء يساعد.
      
      مبقتش عارفة عدى كام كاس شربه منذ صعودنا. يرفع قزازته بين المحطات، يعيد ملأها كلما وجد يداً أخرى مستعدة لتناوله زجاجة. لقد كان مخموراً منذ عودته من الحرب—راجل مهزوم لم يتبق له شيء سوى زجاجة في يد وديون في الإيد التانية.
      
      لكن المرة دي... الوضع أوحش.
      
      ربما العار هو الذي يغرقه الآن، يسحبه أعمق في الزجاجة، أو ربما هذا هو ما أصبح عليه.
      
      راجل أجوف باع بنته تمن لخطاياه.
      
      أمسك بالحافة البالية لمقعدي، أصابعي تغوص في الخشب المتشقق، بحاول أخلي إيديا تبطل تترعش.
      
      مش من الخوف.
      
      أبداً مش من الخوف.
      
      ولكن من تقل كل ده—تقل جسده المائل في غيبوبة ويسكي، وتقل القطار الذي يسحبني أبعد وأبعد عن كل ما عرفته في حياتي، وتقل ما ينتظرني في آخر السكة.
      
      في الخارج، المشهد سحابة ضباب، يجري في خطوط من الذهب والأخضر. ولّت تلك الأشجار الكثيفة الباكية وحرارة لويزيانا البطيئة التي تقطع النَفَس. لا مزيد من مياه المستنقعات تلطش على حواف الطرق المرصوفة بالطوب، لا مزيد من أشجار السرو الصلعاء تقف كحراس صامتين في الضباب.
      
      هذا المكان مختلف.
      
      مفتوح.
      
      واسع.
      
      الهوا هنا ممتد عبر تلال متدحرجة لا نهاية لها، السماء كبيرة وباهتة، كما لو أنها مُسحت من عليها الألوان. في الأفق، ترتفع قمم الأشجار كأسنان مسننة، قممها الخضراء تتلاشى في الضباب.
      
      أتساءل كيف سيكون الشعور لو تسلقت إلى قمة إحداها، ونظرت إلى العالم بالأسفل وشعرت بأنني صغيرة، بس حرة.
      
      داخل القطار، الدكك الخشب ناشفة تحتي، حوافها ناعمة من كتر استعمال المسافرين الذين سبقوني—أناس كان لديهم مكان يذهبون إليه، مكان يهربون إليه، مثلي تماماً. القطار يتأرجح، والأرضية تحت حذائي تهتز مع صوت 'تك-تك' القضبان الثابت، صوت أصبح مألوفاً أكثر من اللازم.
      
      يجب أن أكون خائفة. لكني لا أعرف إن كنت حتى أتذكر كيف يبدو هذا الشعور. لا يوجد سوى هذا التنميل الباهت، يتسلل كشبورة بطيئة، ينعّم حواف كل شيء قبل أن يجرح بعمق.
      
      ربما عقلي بيحمي نفسه. ربما يعرف أنه من الأفضل ألا يدعني أشعر بكل شيء مرة واحدة. العقل ده حاجة غريبة.
      
      أخرجت نفَساً، بطيئاً وثابتاً، ضاغطةً بظهري على مسند الدكة الصلب. لم يتبق لي شيء من أمي سوى الكتاب الذي أعطتني إياه—لا ممتلكات، لا رسائل، لا أثر لها سوى ما هو محفور جوه عضمي.
      
      بس لسه كلامها معايا.
      
      وأنا أتمسك به كما لو كان آخر شيء يبقيني واقفة على حيلي.
      
      اسمك نويمي هالي، وإنتي هتعدي من ده.
      
      لذا...
      
      اسمي نويمي هالي، وأنا هعدي من ده.
      
      أفكر في اليوم الذي كان أبي بيستعرضني فيه في ذلك البار المعتم المليان دخان في نيو أورلينز—الطريقة التي انحنى بها الرجال، ضحكهم التقيل بالويسكي، ابتساماتهم تلتوي كالنسور التي تحوم حول فريسة طازة. كيف رفع تلك اللوحة، يمررها من طاولة إلى أخرى، تاركاً عينيهم الجعانة تاكلني حتى قبل أن تفعل أيديهم ذلك.
      
      كنت شيء، صفقة، فرسة معروضة في مزاد. أصابعهم لمست ذراعي، خصري، شعري، يختبرونني، كما لو كان لهم الحق.
      
      لسه مش مصدقة إنه عملها. بس برضه، لأ، مصدقة.
      
      لقد خسر كل شيء—كبرياءه، حربه، وعقله. أنا كل اللي فاضل له عشان يتاجر بيه.
      
      القطر اتنتع، الوحش الحديدي يئن تحتنا بينما تصرخ العجلات على القضبان. اندفعت للأمام، ممسكة بالمقعد حتى لا أسقط في الممر.
      
      أبي بالكاد اتحرك، فقط تمتم بشيء تحت أنفاسه وترك رأسه يرجع لورا على النافذة الرطبة.
      
      ثم، صمت.
      
      الموتور طلع نَفَس طويل فيه صوت هسيس، وعرفت أننا وصلنا.
      
      رمشت بعيني، أجر نفسي من سحابة الذكريات، أصابعي متيبسة وهي تبتعد عن المقعد.
      
      إندبندنس، ميزوري. راح خلاص الحر المِعقَّد اللي بيخنق بتاع لويزيانا. مكان جديد، كابوس جديد.
      
      خارج النافذة، تمتد البلدة أمامي—كلها تراب، ودوشة، وتغلي بالحياة.
      
      رصيف القطار كان بحراً من الحركة من حيث أراقب عبر النافذة. رجال يرتدون برانيط عريضة ومعاطف عليها خطوط تراب بيتمطعوا بالقرب من المحطة، بعضهم يصرخ لبعضهم البعض فوق هسيس البخار، وآخرون يراقبون الركاب الوافدين بفضول باهت بينما ينتظرون في طابور للنزول من القطار. نساء يرتدين فساتين قطن باهتة يمسكن بأيدي أطفالهن، وجوههن مجهدة، وشعرهن مسحوب في كعكة مشدودة تحت قبعاتهن. أطفال بيجروا بين الصناديق والشنط، أقدامهم الحافية تطير التراب وهم ينسلون عبر الحشد.
      
      رجل مشمر دراعاته لحد كوعه يرمي شكاير تقيلة على عربة، صوت خبطة الغلال على الخشب بالكاد مسموع وسط جلبة الركاب المستعجلين الذين يحاولون النزول بسرعة. عربة حنطور تقف بالقرب من نهاية الرصيف، فريق خيولها يدب في الأرض بزهق، يهشون الذباب المتجمع في الحرارة بذيولهم. رائحة العرق، ورائحة التراب التي تسبق المطر، والروث تملأ الهواء، تختلط بالرائحة الحادة لدخان فحم الموتور الذي أجلس فيه.
      
      بلعت ريقي بصعوبة، أحاول استيعاب كل هذا، لكن الموضوع كان ضخم—أكبر من اللازم، أسرع من اللازم، وغير مألوف.
      
      الأرض تبدو أوسع هنا، تمتد في كل اتجاه، جامحة ومفيش ليها آخر.
      
      مفيش مكان أستخبى فيه.
      
      باب القطار انفتح بصوت صرير، وبدأ الركاب يجروا رجليهم للخارج، أحذيتهم تحتك بألواح الرصيف الخشبية البالية. لم أتحرك. لسه شوية. أبي تحرك أمامي، يفرك وجهه، لكني بالكاد لاحظته.
      
      بدلاً من ذلك، ضغطت بكف إيدي على الشباك، أشعر بالزجاج البارد تحت أطراف أصابعي، نبضي ثابت وبطيء. ها هي. نهاية قفص وبداية قفص تاني.
      
      اسمي نويمي هالي، وأنا هعدي من ده.
      
      تبعت أبي وهو بيترنح وهو قايم من مكانه عندما خفت الطوابير عند كلا الطرفين، مشيته مش متزنة وبيطوح وهو يشق طريقه نحو المخرج.
      
      الرصيف كان مليان دوشة—أناس يصرخون، قعقعة معدنية للشنط وهي تُسحب من القطار، صهيل الخيول المتململ المربوطة قريبة جداً من بعضها—لكن كل هذا بدا بعيداً، مكتوماً، كما لو كنت بتفرج عليها من ورا لوح إزاز تخين.
      
      يداي تشتدان حول أحزمة الحقيبتين الصغيرتين اللتين أحملهما، عقل صوابعي وجعاني من شدة قبضتي عليهما. أركز على الوزن، الضغط، أي شيء ليبقيني ثابتة.
      
      وبعدين شفته.
      
      كان يقف عند طرف الرصيف، بعيد عن الفوضى دي، طويل وثابت، كما لو أن العالم من حوله لا يلمسه بالطريقة التي يلمس بها أي شخص آخر. آخر شعاع شمس قبل ما تمطر يقطع وجهه تحت حافة قبعة رعاة البقر السوداء المليئة بالتراب، ينعكس في عينيه الرمادي الغامق اللي زي لون العاصفة. كانت عيناه تتنقلان فوق الركاب الوافدين، بلا اهتمام، بانفصال.
      
      لحد... ما جت عليا.
      
      للحظة، نسيت أتنفس.
      
      وجهه كان كله زوايا حادة وملامح خشنة، فك قوي يؤدي إلى رقبة تحمل ندوباً قديمة—ندوب تمتد من تحت خط فكه، تختفي تحت ياقة معطفه المتهالك. كانت مشرشرة، ومش متساوية، من النوع الذي تتركه المعارك والزمن.
      
      لم أرها من قبل، ليس في النور الخافت بتاع البار في لويزيانا عندما كان يربط قناعاً على فكه، مخبيها عن الأنظار. لكن هنا، تحت السماء المظلمة، كان مستحيل تجاهلها.
      
      حتى مع وجودها—أو ربما بسببها—كان أكتر راجل وسيم بشكل مدمر شوفته في حياتي.
      
      شعره، بني غامق ومموج، يلف قليلاً حيث بيطل من تحت قبعته، الهوا بعتره وهو يحمل رائحة الخيول والتراب عبر المحطة.
      
      كان هناك شيء في الطريقة التي يقف بها، شيء خطير، ولكن ليس بالطريقة التي كان عليها الرجال في بلدي. مش بالطريقة اللي بتخليني أقشعر.
      
      لأ، ده مختلف.
      
      هذا رجل لا يحتاج أن يرفع صوته لكي يسيطر على أوضة، لا يحتاج أن يمد إيده على مسدسه عشان الناس تخاف منه. إنه رجل يحمل سمعته في وقفته، في الثقة الهادئة التي لا تهتز لشخص عدى من حاجات أسوأ من اللي الناس بتتهامس عليها.
      
      
      
      
      
      
      ودلوقتي، هو بيبصلي.
      
      تقل نظرته بعت قشعريرة حادة في ضهري، تحذير، وسؤال. المفروض أشيح بنظري بعيد، بس معملتش كده. مقدرتش.
      
      لأني إزاي معرفش، عارفة—إن ده الراجل اللي اتبعتله. أنا عارفة العيون دي. دي العيون اللي بصت جوه روحي وشافت حاجة تستاهل تتشرى.
      
      هو متحركش وإحنا بنقرب، مغيَّرش وقفته ولا رفع قبعته للتحية. هو بس بيتفرج، بعيونه الرمادية الباردة دي علينا، ومحدش يقدر يقراها.
      
      قلبي اتخبط في صدري، دقة حادة ومش منتظمة، واضطريت أفكر نفسي أتنفس—أفكر نفسي إن ده حقيقي.
      
      أنا مش هخاف.
      
      أنا هعدي من ده.
      
      اسمي نويمي هالي.
      
      "خمسة آلاف،" أبويا قالها بلسان تقيل، وهو بيشاور بإيده بكسل في الهوا وإحنا بنقف عند طرف الرصيف الخشبي.
      
      نظرة الراجل اتنقلت ليا، ببطء وتقييم، وفجأة حسيت إني قليلة أوي. مش زي ما حسيت زمان في نيو أورلينز، لما الرجالة كانوا بيبصولي كأني حاجة تتاخد، تتقلب، تتمتلك. ده مختلف. عينيه مش بتبص ببجاحة—دي بتوزن، بتضغط عليا زي قوة من قوى الطبيعة، زي الهوا التقيل قبل ما العاصفة تهب.
      
      "ده كان الاتفاق،" قال كده، صوته واطي وثابت، من النوع اللي يستقر جوه الصدر زي حاجة مابتتهزش.
      
      ده بعت فيا رعشة، مش من الخوف، ولا من القرف—من حاجة تانية خالص. حاجة مفيش ليها اسم عندي.
      
      أجبرت نفسي أرفع وشي، أقابل نظرته عين في عين.
      
      عينيه كانت زي الهدوء اللي قبل العاصفة—سحب رعد مستنية تمطر، غامقة وملهاش آخر، وللحظة، حسيت إني بغرق، بتسحب لتحت بتيار مقدرش أقاومه. هو وسيم، بس مش بطريقة تخليك تطمن. فيه حاجة خشنة فيه، حاجة مش متساوية، كأنه اتنحت من الصخر واتساب في الهوا يعتق. بس فيه حاجة تانية كمان—حاجة مكسورة. حاجة تخليني عايزة أبص بعيد، حتى وإنا بجبر نفسي معملش كده.
      
      "أيوة،" أبويا تمتم، وهو بيفوق وبيتلفت، عقله خلاص راح للكاس اللي جاي. "هي بتاعتك أول ما آخد الفلوس."
      
      راعي البقر هز راسه، مرة واحدة بس. "تعالي معايا،" قالها، صوته مبيسمحش بأي نقاش. بعدين لف ومشي، حتى مكلفش نفسه يشوف أنا وأبويا ماشيين وراه ولا لأ.
      
      فضلت واقفة مكاني، رجليا تقيلة على ألواح الرصيف البالية، الخشب تحتي لسه بيترعش من تقل القطر.
      
      أهي دي.
      
      أهي دي حياتي دلوقتي.
      
      بصيت ورايا على أبويا، بدور على—إيه؟ لحظة تردد؟ إنه يفكر تاني؟ بس هو حتى مستخسرش فيا دي. كان خلاص بيترنح ورا اللي اشتراني، خلاص بيمد إيده على تمنه، خلاص بينساني. الغصة اللي في زوري زادت، ناشفة ومبتروحش، بس بلعتها. مفيش حاجة فاضلالي في نيو أورلينز. مفيش غير الوجع. مفيش غير وعود مكسورة.
      
      خدت نفس بطيء، فردت كتافي، ونزلت من على الرصيف.
      
      راعي البقر مشي قدامي بخطوات واسعة وليها هدف، معطفه بيتحرك مع كل خطوة. جزمته بتخبط في الأرض بثقة راجل متعود الناس تمشي وراه، متعود يتطاع، متعود يأمر.
      
      أبويا كان ماشي جنبه، مع إن خطواته كانت أقل ثبات، بيطوح شوية مع كل حركة. وأنا؟ كنت بجر نفسي وراهم، خطواتي سريعة أوي، ومش منتظمة، وأنا بحاول ألاحق خطوة راجلين خلاص قرروا مصيري.
      
      مسكت شنطي جامد أوي، حياتي كلها في الشنطتين الصغيرين دول، وزنهم تافه جنب الحقيقة الأتقل اللي ضاغطة عليا.
      
      حقيقة إني ماشية في اتجاه مستقبل مختارتوش.
      
      مستقبل ملك لراجل حتى معرفش اسمه.
      
      خلاص، هيفضل راعي بقر لحد ما يحس إنه عايز يعرف نفسه. راعي البقر... بتاعي، غالباً.
      
      بلدة إندبندنس بانت قدامي، مفرودة ومتململة، بعيدة كل البعد عن سكون بيتي الرطب.
      
      الشوارع كانت زحمة حركة، لخبطة متشابكة من الناس والحيوانات، عربيات كارو وعربيات بحصنة، أصوات بتزعق تعلى على بعض. فريق خيول عدى بيجرجر، حوافرهم بتطير التراب في سحب تقيلة وبتدور، دخلت في زوري. ست واقفة جنب فرشة السوق، شايلة ابنها على وسطها وهي بتفاصل مع بياع بيبيع فروع لافندر ناشفة. قريب منهم، مجموعة رجالة مأنتخين جنب ورشة الحداد، بيمسحوا العرق من على وشهم وهما بيتكلموا بصوت واطي، عينيهم بتيجي على راعي البقر اللي قدامي—وبعدين يبصوا بعيد بسرعة.
      
      لاحظت وقتها، إزاي الزحمة بتتغير حواليه، إزاي الناس بتوسعله من غير ما يطلب. شوية بيبصوا لفوق، فضول بيلمع في ملامحهم قبل ما يبصوا بعيد، كأن مجرد النظرة في عينه ممكن تحرقهم. وناس تانية مبتاخدش الريسك ده أصلاً، بيفضلوا موطيين راسهم، انتباههم متركز في أي حتة تانية غير عليه.
      
      وبرضو، هو مبطأش.
      
      أجبرت نفسي أفضل ماشية، بزاوغ بين الناس، بتفادى البراميل والصناديق وكيمان روث الخيل اللي سايبها مرور اليوم. إندبندنس مفيهاش أي حاجة من بيتي. حاساها أكبر. أدوش. أقسى. مفيش شجر سرو هنا، مفيش غطا تقيل من الرطوبة بيضغط على جلدي. مجرد حر ناشف، وتراب، وإحساس طاغي إني مش تبع المكان ده.
      
      تقل الحقيقة دي استقر جوه صدري. صوابعي قفشت على سيور شنطي، وعقل صوابعي وجعتني.
      
      أنا لوحدي بجد.
      
      الفكرة خبطت فيا، حاجة مفاجئة وساحقة، ولثانية واحدة يائسة، كنت عايزة أجري. ألف وأرجع، ألاقي القطر، أهرب قبل ما يفوت الأوان.
      
      بس الأوان فات خلاص.
      
      عشان أبويا مبصش وراه.
      
      عشان راعي البقر فضل ماشي.
      
      عشان مفيش مكان تاني أروحه.
      
      فأجبرت رجليا تتحرك، خطوة ورا التانية، ماشية ورا اللي اشتراني واللي باعني في اتجاه عربية مستنية في آخر الشارع الزحمة.
      
      لما وصلنا للعربية، الراجل اللي بيشع خطر ده لفلي وهو بيفتح الباب. ملامحه متتقريش، عيونه الرمادي متتقريش، وحتى معزمنيش أطلع. متكلمش. هو بس اتفرج عليا—مستني.
      
      اترددت، صوابعي بتقفش على سيور شنطي. نفسي اتحبس في زوري، غصة اتكونت مش عارفة أبلعها. معرفش المفروض أعمل إيه—أستنى أوامر، أطلب إجابة، أجري؟ بس بعدين، لمحتها—لمعة نفاد الصبر في عينيه، حادة وعدت بسرعة. رجليا اتحركت قبل ما أفكر أحسن.
      
      اتسلقت عشان أطلع العربية، كفوفي اتزحلقت على الإطار الخشب الخشن وأنا قربت أفقد توازني. المقعد كان ناشف تحتي، وقعدت مفردوة ضهري أوي، نبضي بيدق جوه ضلوعي.
      
      أنا مش تبع هنا.
      
      أبويا طلع ورايا، اتسلق بتردد أقل بكتير. اتنهد وهو بيستقر على المقعد المنجد اللي قصادي، رزمة فلوس في إيده. صوابعه قفشت عليها كأنها طوق نجاة، كأن تقل الورق ده أهم من تقل اللي هو عمله.
      
      راعي البقر اتحرك بسلاسة، قفل الباب وراه قبل ما ينط على قدام العربية كأنه عملها ألف مرة قبل كده.
      
      بإيد واحدة، أبويا مد إيده في صديريته وطلع قزازة جلد سودة، فك غطاها بصباعه قبل ما ياخد شفة بطيئة ومقصودة. عروق رقبته اتحركت وهو بيشرب، إيده التانية ماسكة رزمة ورق فلوس—خمسة آلاف دولار.
      
      نص التمن اللي قاله.
      
      التمن اللي التانيين مجرؤوش يدفعوه.
      
      "المراسم هتبقى إمتى؟" صوت أبويا وصل من الشباك الصغير اللي بينا، واطي وثابت، كأنه عارف الإجابة خلاص.
      
      قصادي، هو لحس شفايفه، ريقه بيجري على منظر الفلوس. "القسيس مستنينا في الكنيسة،" راعي البقر رد، يادوب اتكلم قبل ما اللجام يطرقع في إيديه والعربية تندفع لقدام.
      
      الكلام خبطني زي قلم على وشي ورصاصة في بطني.
      
      كنيسة.
      
      قسيس.
      
      جواز.
      
      لأ.
      
      لأ، لأ، لأ.
      
      جسمي اتصرف قبل ما عقلي يستوعب. إيديا اتمدت على باب العربية، صوابعي بتشد، بتخربش في الأوكرة وأنا بزق فيه. مش عايز يفتح بسرعة، مش عايز يخليني أخرج قبل ما الهوا في العربية يقفل عليا.
      
      هوا.
      
      أنا محتاجة هوا.
      
      المكان ضيق أوي، صغير أوي، قريب أوي—أبويا قصادي، وراجل غريب سايق، ومعلومة إني بتاخد، إني خلاص اتاخدت، ضاغطة عليا زي تقل سحق.
      
      شديت أقوى، الباب أخيراً فتح، وكنت هقع من العربية وهي ماشية، سندت على إيديا وأنا بخبط في الأرض.
      
      الخبطة لسعت، جلدي اتسلخ على تراب الطريق الناشف. قومت وقفت على رجلي وأنا بطوح، كل عصب في جسمي بيصرخ فيا أجري، أجري، أجري.
      
      الكلام مش راضي يسكت في دماغي.
      
      قسيس مستني.
      
      مراسم.
      
      جواز.
      
      ده مش حقيقي. مستحيل يكون حقيقي.
      
      الرؤية غبشت على الأطراف، رئتي بتقفش، صدري بيعلى ويوطى بسرعة أوي، مش منتظم. إيديا بتترعش على ركبي وأنا موطية لقدام، بحاول أدخل الهوا لجسمي تاني مع كل شهقة. بس الهوا مش راضي يدخل.
      
      غمضت عيني جامد.
      
      مش قادرة أتنفس.
      
      صوت جزم بتخبط على التراب بالكاد سجلته وسط رعبي، بس بعدين—إيد. دافية وثابتة، بتضغط برفق على ضهري، بتمسح بحركات دائرية بطيئة. لمسة مش خشنة، مش غصب.
      
      
      
      
      
      
      
      
      ...مجرد... هناك.
      
      أنتفض مبتعدة عنها في الحال. جسدي يتحرك قبل أن أفكر، أتعثر للخلف بينما نظري يرتفع فجأة، صدري ما زال يعلو ويهبط، ويداي مقبوضتان. وها هو ذا.
      
      راعي البقر.
      
      راعي البقر الخاص بي.
      
      هو لا يتحرك، لم يمد يده إلي مرة أخرى. هو ببساطة يراقب، عيناه الرماديتان كالعاصفة ثابتتان، لا تتزحزحان.
      
      "للداخل من أنفك،" قال، آخذاً نفساً عميقاً وحابساً إياه. انتظر. يراقب. يتوقع.
      
      ترددت، جسدي ما زال حبيس الذعر، لكن شيئاً ما في الطريقة التي يتحدث بها—الثقة الهادئة في صوته—جعلتني أستمع.
      
      استنشقت بحدة من أنفي، أحاول حبسه كما يفعل، لكن أنفاسي ارتجفت في صدري، ضلوعي تؤلمني من شدة دقات قلبي.
      
      "للخارج من فمك." زفر ببطء، شفتاه تنفرجان بما يكفي لخروج النَفَس. عيناه لم تترك عيني أبداً. "ركزي على دقات قلبك،" قال، بهدوء ولكن بحزم. "اشعري بها في صدرك. وأجبريها أن تبطئ."
      
      بلعت ريقي بصعوبة. يداي ما زالتا ترتعشان، رأسي ما زال يدور، لكني أومأت.
      
      نَفَس آخر للداخل. أبطأ هذه المرة.
      
      آخر للخارج.
      
      وببطء، بدأ الثقل يرتفع.
      
      أراقبه وأنا أتنفس، أراقبه وهو يراقبني. لم يستعجلني، لم يضغط. فقط انتظر، كما لو أن لديه كل الوقت في العالم.
      
      "خذي وقتك كما تحتاجين،" تمتم، ولا أعرف لماذا، لكني أستمع إليه.
      
      أومأت مرة أخرى، وآخر نَفَس عميق يملأ رئتي. الغثيان في معدتي هدأ، وعندما وجدت صوتي أخيراً، كان بالكاد أعلى من الهمس.
      
      "مرحباً، يا راعي البقر؟"
      
      انعقد حاجبه قليلاً عند سماع الاسم، شفتاه ارتعشتا عند الزوايا. "راعي البقر؟"
      
      "حسناً،" قلت، مخرجة آخر ما تبقى من ذعري، "أنا لا أعرف اسمك. لذا، 'راعي البقر' سيفي بالغرض حتى تشعر بأنك 'رجل نبيل' بما يكفي لتقدم نفسك."
      
      تلك الارتعاشة كادت أن تتحول إلى شيء أكثر. شبه ابتسامة، سريعة وعابرة، سريعة لدرجة أنني كدت ألا أراها.
      
      وهكذا، اختفت، متلاشية بينما يدس يديه في جيوب معطفه ويستدير عائداً نحو العربة.
      
      توقف عند المقدمة، متوقفاً بما يكفي ليقابل نظرتي مرة أخرى.
      
      "ريفن بلاكستون،" قال. "لكن 'راعي البقر' سيفي بالغرض."
      
      ريفن بلاكستون.
      
      ريفن بلاكستون.
      
      ثم سحب نفسه إلى مقعد السائق، وتحركنا مرة أخرى عندما أجبرت ساقاي على الصعود مجدداً إلى العربة.
      
      ريفن طرقع باللجام عندما أصبحت بالداخل، واندفعت الخيول للأمام، تسحبنا بعيداً عن المحطة وإلى قلب إندبندنس.
      
      العربة تهتز تحتي، تترجرج مع كل حفرة غير مستوية في الطريق الترابي، العجلات تصر احتجاجاً. أصوات المحطة—الصياح، قعقعة الأمتعة، صفارة القطار المغادر—تتلاشى خلفنا، يبتلعها همهمة البلدة المتنامية.
      
      إندبندنس حية بطريقة لم تكن عليها نيو أورلينز أبداً.
      
      الشوارع فوضى متشابكة من الحركة، أناس وعربات ينسلون بين بعضهم البعض في رقصة غير معلنة تبدو على بعد خطوة واحدة خاطئة من الفوضى. الهواء كثيف بالغبار، الذي تثيره الحركة المستمرة للحوافر وعجلات العربات، رائحة الخيول، التبغ، وشيء يُقلى على نار مكشوفة تختلط معاً.
      
      نساء بقبعات باهتة يمشين على الأرصفة الخشبية، تنانيرهن تحتك بالخشب وهن يحملن سلالاً من البضائع الجافة والقماش. رجل يقف خارج صالون حلاقة، يميل قبعته للخلف وهو يدخن غليوناً، يراقب تدفق الحركة بلا مبالاة. مطرقة حداد ترن في دقات ثابتة وموزونة، مرسلة شرارات تتطاير في الضوء الخافت. بالقرب، يركض أطفال بين الصناديق المكدسة خارج المتجر العام، أقدامهم الحافية تثير الغبار وهم يضحكون ويطاردون بعضهم البعض في الشارع.
      
      من خلال العربات المارة والفرسان على ظهور الخيل، أختلس النظر إلى مؤخرة قبعة ريفن، محاولة فهم الرجل الذي يسيطر الآن على مصيري. جسده يغطيه السواد، وقفته متيبسة، كتفاه العريضان مستقيمان بطريقة تدل على العادة، وليس التفكير—كأنه تعلم ألا يسمح لنفسه أبداً بأن يكون أي شيء سوى منغلق. لا يكشف عن أي شيء.
      
      الندوب التي تشق طريقها أسفل رقبته، مختفية تحت ياقة قميصه الأسود، لها قصتها الخاصة. قصة لا أعرف إن كنت أريد سماعها. قصة لا أعرف إن كان سيرغب يوماً في روايتها.
      
      الثقل في صدري يشتد، شيء بارد يلتف في أعماق بطني، لكني أدفعه. أجد صوتي، رغم أنه يخرج أهدأ مما قصدت.
      
      "هل ستزورني، يا أبي؟"
      
      أبي بالكاد يتفاعل. ضحك بخفوت تحت أنفاسه، يقلب نقوده مرة أخرى، يسوي الأوراق النقدية كأنها أثمن شيء حمله في حياته. لست أنا. أبداً لست أنا.
      
      "عشرة آلاف،" تمتم، وهو يعدها للمرة الثالثة. "عشرة آلاف لعينة."
      
      "يا أبي؟" صوتي يرتجف، ليست النبرة الواثقة التي قصدت استخدامها. خرجت كأنين.
      
      لا أعرف لماذا أسأل. لا أعرف لماذا أتوسل.
      
      لقد كان أباً فظيعاً عندما تجاهلني، وعندما كان ينتبه، كان أسوأ. أسوأ بكثير.
      
      رعشة تسري في عمودي الفقري، ذكرى تشق طريقها إلى السطح، ذكرى أدفنها مرة أخرى قبل أن تتمكن من التجذر.
      
      ربما أنظر إلى كل هذا بشكل خاطئ. ربما هذا ليس كابوساً على الإطلاق.
      
      ربما بيعي لغريب هو حلم متنكر. حلم إذا جعلته كذلك.
      
      تغوص الشمس أكثر، تسكب الذهب فوق أسطح المنازل، ترسم ظلالاً طويلة على الأرض. يصبح الهواء أبرد، أثقل، وأفقد نفسي في إيقاع العجلات، الخبط الثابت للحوافر، المسار البطيء المتعرج عبر الشوارع.
      
      ثم، فجأة، نتوقف.
      
      التوقف المفاجئ يرسلني مندفعاً للأمام، راحتا يدي تصطدمان بحجري بينما أحاول إمساك نفسي. باب العربة يُفتح، وريفن هناك، يقف في ضوء الشمس المتلاشي.
      
      تنتقل عيناه إلى أبي أولاً، وشيء يمر على وجهه—ومضة من الاشمئزاز، الغضب، سريعة لدرجة أنها اختفت قبل أن أتمكن من التأكد من أنها كانت موجودة أصلاً. ثم تستقر نظرته علي، وللحظة، لا أستطيع التنفس.
      
      "هل ترغبين في التوقف عند الخياطة من أجل فستان،" يسأل، صوته ثابت، عيناه الرماديتان لا يمكن قراءتهما، "أم أنك راضية بملابسك؟"
      
      ألقي نظرة على فستاني—مجعد، باهت، مغبر، تذكير بالماضي الذي أُنتزع منه. ماضٍ لا أعرف إن كان يجب أن أتمسك به أم أتركه يموت.
      
      صوته موزون، ثابت—ولكن ليس لطيفاً. لا يوجد فيه سخرية، لا رقة، مجرد سؤال بسيط، قرار عملي.
      
      راعي البقر ذو الندوب الذي اشتراني للتو يعطيني خياراً.
      
      اعتقدت أن حقي الإنساني في الاختيار قد أُلقي به من نافذة القطار من نيو أورلينز إلى سانت لويس.
      
      أهز رأسي. "لا، يا راعي البقر. سأ—"
      
      لكن ريفن كان يستدير مبتعداً بالفعل، يخطو بالفعل نحو أبواب الكنيسة الطويلة، ساقاه الطويلتان تلتهمان المسافة كما لو كان مستعجلاً لإنهاء هذا الأمر.
      
      "القسيس من هذا الطريق."
      
      أدير عيني نحو ظهره، وأنا أعلم جيداً أنه لا يهتم إن فعلت. ثم، أتبعه.
      
      الكنيسة مذهلة، غارقة في آخر درجات ألوان الشمس الدافئة المتسربة عبر الأبواب الزجاجية الملونة، تضيء الألوان الزاهية للقديسين والشهداء كنار مقدسة. الجدران مبطنة بنقوش معقدة لملائكة ونبوءات، المقاعد الخشبية مصقولة بفعل الزمن، صفوف فوق صفوف تؤدي إلى منبر رخامي فخم. خلفه، يلوح أرغن ذو أنابيب ضخم، وجوده مهيب وجميل في آن واحد.
      
      راهبات يتحركن في المكان، بعضهن يركعن أمام نقوش حجرية للإله والسيدة العذراء، أيديهن مشبوكة في صلاة، ورؤوسهن منحنية. أخريات يحملن أغطية، يرتبن الشموع، يتهامسن بعبادتهن لإله تخلى عني منذ زمن طويل.
      
      صوت جزمة ريفن يتردد صداه على الأرضية الحجرية، وأجبر نفسي على اتباعه، حتى بينما ترتجف ساقاي تحتي.
      
      أبي يتعثر خلفي، ما زال متمسكاً بالشيء الوحيد الذي كان يهمه يوماً—نقوده.
      
      عند المنبر، يظهر القسيس. أثوابه بيضاء، مطرزة بالذهب، شعره رمادي وخفيف، وعيناه البنيتان لطيفتان، ولكنهما ثقيلتان—كما لو أنه رأى الكثير من حفلات الزفاف التي ما كان يجب أن تحدث.
      
      "أهلاً بكما،" يقول، صوته هادئ. "هل أنت مستعد للبدء، يا سيد بلاكستون؟"
      
      ريفن يومئ. بحزم. بشكل نهائي.
      
      أبي يتمايل على قدميه، عيناه المحتقنتان بالدم بالكاد تسجلان اللحظة قبل أن يومئ هو الآخر، موافقاً بغباء على كل ما سيأتي.
      
      أستنشق بحدة، صدري ضيق جداً، نبضي عالٍ جداً.
      
      وبعد ذلك، أومأت.
      
      لا عودة الآن.
      
      كلمات المراسم تغمرني، لكني لا أسمعها. أنا غارقة في ذكريات أمي، في الطريقة التي كانت تحتضنني بها، كيف كانت رائحتها تشبه الورود والكتان النظيف، كيف ما كانت لتسمح أبداً بحدوث هذا لو كانت على قيد الحياة.
      
      صوت القسيس يسحبني مرة أخرى.
      
      "هل تقبلين بهذا الرجل زوجاً شرعياً لك، ليكون لك وتحافظي عليه، من هذا اليوم فصاعداً، في السراء والضراء، في الغنى والفقر، في المرض والصحة، لتحبي وتعتزي به، حتى يفرقكما الموت؟"
      
      لا أستطيع التنفس.
      
      أبي حتى لا يرفع نظره. لا يهتم.
      
      ألتقي بنظرة ريفن، ولأقصر لحظة، أرى شيئاً هناك.
      
      ندم؟ شفقة؟
      
      تلاشت بالسرعة التي ظهرت بها.
      
      "أقبل،" أهمس، صوتي بالكاد مسموع، ولكنه نهائي بطريقة ما.
      
      يلتفت القسيس إلى ريفن، تعابيره رسمية. "هل تقبل بهذه المرأة زوجة شرعية لك، لتكون لك وتحافظ عليها، من هذا اليوم فصاعداً، في السراء والضراء، في الغنى والفقر، في المرض والصحة، لتحب وتعتز بها، حتى يفرقكما الموت؟"
      
      جاء رد ريفن فورياً، بلا عاطفة.
      
      "أقبل." صوته منخفض، ثابت، ولم يكن هناك أي تردد. كانت عبارة بسيطة، لكنها تحمل ثقل الحتمية، وكأنه قد قبل هذا المصير قبل وقت طويل من أن أعرف أنه قادم.
      
      وبعد ذلك—
      
      يومئ القسيس، مغلقاً الكتاب ورافعاً يديه للمباركة. "بالسلطة المخولة لي من الكنيسة وولاية ميزوري، أعلنكما الآن زوجاً وزوجة. يمكنك تقبيل العروس."
      
      صمت.
      
      ريفن لا يتحرك. لا يلمسني.
      
      يحدق بي للحظة طويلة، ثم يستدير على كعبه ويمشي مبتعداً.
      
      وهكذا، أنا متزوجة.
      
      متزوجة، ولكن لم أُقبَّل عند المذبح.
      
      متزوجة، ولكن لم يُطلب يدي للزواج أبداً.
      
      متزوجة، ولكن لم يُقل لي 'أحبك' أبداً.
      
      في الخارج، بدأت الشمس في الغروب، وأصبح الهواء أبرد، أثقل. العربة تنتظرنا حيث تركناها، الخيول تدب بأقدامها بنفاد صبر.
      
      ريفن يساعدني على الصعود هذه المرة، لكنه لا يتكلم.
      
      هو ببساطة يصعد إلى مقعده، يمسك باللجام، وبدون كلمة، نمضي.
      
      بعيداً عن الكنيسة. بعيداً عن كل شيء.
      
      نترك أبي في المحطة، لكني أعرف—شبحُه سيطاردني أطول مما فعل وجوده.
      
      بينما تختفي البلدة خلفنا، تبتلعها التلال المظلمة والغابات الكثيفة، أدرك شيئاً واحداً.
      
      لا عودة للوراء.
      
      الطريق أمامنا طويل، متعرج، وغير مؤكد.
      
      وفي نهايته، ينتظرني في الظلال، راعي البقر الوسيم ذو الملامح الخشنة المسمى ريفن بلاكستون.
      
      اسمي نويمي هالي، وأنا سأنجو من هذا.
      
      تصحيح.
      
      اسمي نويمي بلاكستون، وأنا سأنجو من هذا.
      
      

      Pages