الأقسام

قصص تاريخية

... ...

قصص فانتازيا

... ...

قصص رعب

... ...

قصص رومانسية

... ...

قصص مخصصه لك

    قصص المختلط

      قصة حياة طالبة في الثانوية

      حياة طالبة في الثانوية

      بقلم,

      مدرسيه

      مجانا

      في تالتة ثانوي وعايشة بشخصيتين. من بره هي البنت الفرفوشة كابتن فريق التشجيع، ومن جوه هي مرعوبة. إيما مخبية سر كبير وخايفة لو اتعرف هيدمر كل حاجة حواليها. حياتها بتتعقد أكتر لما تضطر تاخد حصة مع "مس كلارك"، الم درست الجديدة القاسية. الرواية عن صراعها عشان تحافظ على قناعها ومحدش يكشف حقيقتها.

      إيما

      بتمثل إنها سعيدة ومشهورة، لكنها في الحقيقة عايشة في رعب دائم بسبب سر بتخبيه عن كل الناس (متعلق بميولها وحقيقتها).

      كايلي

      صاحبة إيما الانتيم. بنت متحمسة وطاقتها عالية، بس مش واخدة بالها خالص من صراع إيما الداخلي.

      مس كلارك

      درست العربي. ست شكلها جميل لكنها حادة وقاسية ومسيطرة جداً، وبتمثل تهديد كبير لإيما.
      رواية حياة طالبة في الثانوية
      صورة الكاتب

      مع تزييق أبواب الأوتوبيس وهي بتتفتح، أعصابي سابت وبقت على آخرها. فردت ابتسامة على وشي، ورحت ناحية صاحبتي الانتيم كايلي اللي كانت مستنياني عند باب المدرسة.
      
      "إيما، أنا هنا!" ندهت عليّ، وهي بتشاور بحماس، وشعرها اللي لونه زي الخزامى بيطير مع ديل الحصان بتاعها. خدت نفس عميق ووقفت جنبها، بحاول أكون متحمسة زيها على قد ما أقدر، رغم إن الخوف كان بياكل فيا من جوه.
      
      "إيه الحماس ده؟ آخر أول يوم لينا في ثانوي!" كايلي قالتها وهي مبسوطة أوي، وماخدتش بالها من ابتسامتي المصطنعة. بصيت على لبس التشجيع بتاعنا، الأسود في أزرق، اللي زي بعض بالظبط. اللبس ده كان رمز للشخصية اللي بوريها للدنيا - إيما السعيدة، الفرفوشة اللي بتحب تكون محط الأنظار.
      
      يا ريتها بس كانت تعرف الحقيقة. مع الأسرار اللي عندي دي، كلمة واحدة غلط ممكن تبوظ كل حاجة. وكايلي عمالة ترغي عن خططنا لسنة تالتة، ابتسامتي اختفت، وعينيا كانت بتدور وسط الزحمة على أي حد ممكن يمثل خطر.
      
      الجرس الأول ضرب، معناه إننا ندخل الفصل. كايلي شبكت دراعها في دراعي، وفضلت ترغي بسرعة الصاروخ. كنت بهز راسي وأضحك في الأوقات الصح، ومتبتة في حالتها الطبيعية دي كأني بتشبث بقشة في بحر القلق اللي أنا غرقانة فيه.
      
      وكايلي عمالة ترغي، أنا زقيتنا ناحية الفصل. قعدنا في كراسينا اللي متعودين عليها ورا، يا دوب مع رنة جرس التأخير.
      
      نوا، اللي كانت قاعدة قدامي، لفت وابتسمت لي ابتسامة عريضة. "سنة تالتة، مصدقة؟" قالت وهي بتزق خصلة شعر شقرا هربانة ورا ودنها.
      
      ابتسمت لها، وحسيت براحة زي كل مرة بسبب طبعها الهادي ده. "مجنونة. تفتكري مستر ستيفنسون هيعيط تاني زي السنة اللي فاتت؟"
      
      نوا ضحكت، وفي نفس اللحظة دخل مدرسنا الأصلع، وعينيه مدمعة جاهزة. "صباح الخير يا أحلى دفعة تالتة! أوعدكم إني مش هتأثر أوي..." وقالها وهو بيشهق.
      
      الفصل كله كشر، بس أنا لمحت كايلي منورة من الفرحة. حمدت ربنا إن فيه واحدة فينا على الأقل متحمسة. ونوا بدأت تحكي في حكاية، أنا بصيت حواليا بقلق، عينيا جت على كل وش. لحد دلوقتي، مفيش حد منهم شايف اللي أنا خايفة يكون باين أوي - البنت اللي مخبية حقيقتها، يوم ورا يوم، ومستنية كل ده يتكسر زي الإزاز.
      
      مستر ستيفنسون بدأ يوزع علينا الجداول. قلبي اتقبض وأنا ببص على الجدول بتاعي، كنت مرعوبة من اللي ممكن أشوفه مكتوب.
      
      "إحنا مع بعض في حصة الحساب،" نوا قالت وهي مبسوطة. أهو على الأقل حاجة كويسة نبدأ بيها.
      
      كايلي شاورِت وقالت إننا مع بعض في التاريخ كمان. بس أنا قلبي وقع في رجليا لما شفت الحصتين التانية والرابعة. حصة العلوم لوحدي ماشي، أقدر أستحملها، لكن العربي...
      
      "وقعتي مع مس كلارك؟" نوا سألتني، أول ما شافت وشي اتقلب. هزيت راسي وأنا مقهورة.
      
      "يادي النيلة، ملكة التلج. أنا مع مستر وايت، ده طيب أوي!" كايلي قالتها وهي بتزقزق. طبعاً هي تاخد المدرس الكويس وأنا أترمي للوحوش.
      
      مسكت الجدول في إيدي جامد، وكنت حاسة إني هعيط. كل اللي قدرت أعمله إني أبتسم ابتسامة ضعيفة لكايلي وهي بتقولي إننا هنتغدى مع بعض. بس من جوايا، الرعب كان مالي قلبي.
      
      لما مستر ستيفنسون قال إننا ممكن نتكلم شوية لحد ما الجرس يضرب، كايلي لفت لنوا بحماس.
      
      "بجد بقى، إنتي ليه مجربتيش تدخلي فريق التشجيع لحد دلوقتي؟ هتبقي تحفة!" فضلت تزن عليها.
      
      نوا هزت كتفها. "بصراحة مش جوي. أنا دحيحة علوم أكتر، إنتي عارفة."
      
      كايلي بصتلي وشاورت. "بس أنا وإيما ممكن نساعدك تتمرني! هتبقى حاجة جامدة أوي لو إحنا التلاتة بقينا مع بعض في الفريق."
      
      ابتسمت ابتسامة ضعيفة وأنا بفكر في الموضوع. على قد ما بحب التشجيع، فكرة إني أعمل استعراض قدام الناس بترعبني.
      
      "عشاني يا نوا، والنبي؟" كايلي عملت لها نظرة "القطة البريئة" بتاعتها. نوا بصتلي، وللحظة شكيت إنها ممكن تكون شافت اللي ورا ابتسامتي أنا كمان. بس في الآخر ضحكت.
      
      "خلاص خلاص، هفكر في الموضوع. بس مفيش وعود ها!"
      
      وهما بيتكلموا بحماس عن الاختبارات، أنا فضلت مبحلقة في الجدول بتاعي تاني. كان نفسي أكبر همومي تكون حاجة بسيطة زي التشجيع—مش إني أكون مخبية حتة من نفسي عن المدرسة دي كلها كل يوم.
      
      كايلي لفت لي بلهفة. "قوليلي يا إيم، شفتي كوبر كان جامد إزاي الصبح؟"
      
      رسمت على وشي أكبر ابتسامة مصطنعة. "بصراحة مخدتش بالي، كنت مركزة ألحق الفصل في ميعاده." الكدبة طلعت من بقي بسهولة.
      
      في الحقيقة، فكرة إني أصاحب ولاد كانت بتزود الرعب اللي جوايا. بس كايلي مكنش لازم تعرف ده - مفيش أي حد كان ينفع يعرف.
      
      "إنتي مش واخدة بالك من حاجة خالص،" قالت وهي بتهزر. "أنا لازم أظبطك معاه. فكري بس، كابتن فريق التشجيع والواد الكورة!"
      
      ابتسامتي اتشدت. على قد ما الموضوع ده ممكن يبان مغري لأي بنت تانية، أنا مكنتش شايفة نفسي مع كوبر ولا مع أي ولد. بس هزيت راسي كأني موافقة زي كل مرة، عشان أكمل التمثيلية.
      
      في اللحظة دي الجرس ضرب، وأنقذني من أي خطط تانية للعب دور الخاطبة. شديت شنطتي وأنا حاسة براحة.
      
      الحصة التالتة قربت تخلص، كايلي ونوا بصوا لبعض وابتسموا قبل ما كل واحدة تروح في طرقة مختلفة. بس أنا رجلي كانت بتجر وأنا بقرب من ناحية فصول العربي.
      
      قلبي نزل في رجليا لما لمحت مس كلارك واقفة على باب فصلها، ناشفة زي التمثال بالبدلة السودة بتاعتها المعتادة. شعرها الأشقر التلجي وعينيها الزرقا الحادة مكنش فيهم أي ذرة دفا.
      
      والطلبة بيعدوا من قدامها، كانت بتهز راسها هزة خفيفة، ومبحلقة في كل واحد فيهم كأنه تحت ميكروسكوب. كنت تقريبًا حاسة بنظراتها وهي بتشرحني حتة حتة وبتطلع كل حتة مهزوزة فيا من بعيد.
      
      
      
      
      
      
      خدت نفس مهزوز وخطيت خطوة لوحدي تحت مراقبة مس كلارك. عينيها الزرقا الجامدة ركزت عليّ، وأنا اتجمدت في مكاني، حسيت إني مكشوفة على الآخر، ومتفصصة قدامها عشان تفتش فيا.
      
      غصبت نفسي أبص في عينها وأرسم ابتسامة خفيفة، والقناع العميق بتاعي طلع على وشي بسهولة وأنا داخلة عرين الأسد بتاعها.
      
      أول ما الجرس صرصر، مس كلارك عدت من الباب بخطوات ناشفة، وسابت الباب يتقفل وراها بخبطة عملت صدى.
      
      في لحظة، الفصل كله سكت ومبقاش فيه ولا نفس. بصت علينا واحد واحد بنظرة نقدية قبل ما تتكلم بنبرة حادة وصوت عالي:
      
      "إنتو في سنة تالتة، يعني المفروض عارفين النظام. مش هسمح بأي رغي تافه أو تشتيت. ده فصل عربي مستوى رفيع، وأنا متوقعة الامتياز وبس."
      
      كام واحد بصوا لبعض بقلق. أنا فضلت باصة في الأرض، وكنت حاسة بتركيزها الثاقب وهو بيشرح كل حتة فيا بعقله.
      
      "إحنا هندرس الكلاسيكيات بعمق ونقد قاسي. أنا مش بطبطب على الشغل التعبان." سكتت شوية، والتهديد كان واضح في سكوتها. "مفهوم؟"
      
      ردت همهمات متفرقة "أيوه يا مس كلارك" بخوف. عينيها لفت علينا بتهديد. ضميت كفوفي المعرقة في جيب الجيبة بتاعتي.
      
      "لما أنده على اسمك، رد وقول حاضر." وبدأت مس كلارك تقرا الأسماء من الكشف. عينيا معرفتش تمنع نفسها إنها تلاحظ جمالها الطبيعي. عضم خدودها العالي، وجسمها الرفيع المستخبي ورا لبسها الرسمي.
      
      أول ما الفكرة دي نطت في دماغي، هزيت راسي عشان أطردها، قرفانة من نفسي تماماً. هو أنا ليه مينفعش أكون طبيعية؟
      
      "إيما هارت." سمعت اسمي بيتنادى، والنرفزة طالعة من صوتها. بصيت في عينيها الزرقا التلج.
      
      رفعت إيدي ببطء، "حاضرة."
      
      مس كلارك مبصتليش تاني وهي بترجع تبص في اللوحة اللي في إيدها. "لو مكنتيش سرحانة، كنتي سمعتيني من أول مرة."
      
      لما خلصت ندهة الأسماء، مس كلارك بدأت توزع علينا المنهج من أول الفصل. كل حركة بتعملها كانت بتشع تحكم ودقة.
      
      لما آخر ورقة اتوزعت، مس كلارك وقفت عدل عشان تكلمنا من ورا المنصة بتاعتها. شبطت في أطراف الكرسي بتاعي من غير ما أحس تحت هيبتها اللي تفرض نفسها.
      
      "أنا مابقبلش شغل متأخر،" قالت بحزم، وكلامها كان متقطع وناشف. "مفيش حاجة اسمها إعادة امتحان لو سقطت. الواجب اللي متعملش أو اتنسى هيتاخد عليه صفر، من غير أي أعذار."
      
      عينيها التلج عدت علينا واحد واحد وهي بتكمل. "الامتحانات عليها خمسة وأربعين في المية من درجتك. الامتحان النهائي عليه خمسين في المية."
      
      الصمت خيم على الفصل بسبب سياستها اللي مفيهاش هزار. كنا عارفين كويس أوي قد إيه مهم إننا نكسب رضاها عشان نعدي.
      
      نظرة مس كلارك الخارقة اتثبتت عليّا ثانية زيادة قبل ما تتحرك. "أنا بقترح، عشان مصلحتكم، إن كل واحد في الأوضة دي يذاكر بجدية تامة."
      
      قشعريرة مشيت في جسمي من التهديد اللي مابين السطور. غلطة واحدة مع الم درست دي، وهيبقى محكوم عليّ بالسقوط تحت مراقبتها اللي مبتعرفش الرحمة.
      
      إيديا فضلت تفرك في بعض بقلق لما جيف رفع إيده بابتسامة خفيفة، كان واضح إنه بيحاول يلطف الجو. مس كلارك ثبتت عليه نظرة حديدية.
      
      "عايز إيه؟" زهمت فيه، واضح إنها مش في مزاج لأي تهريج.
      
      "هو المنهج فيه أي حاجة عن إنك ملكة النكد؟" لما جيف قال النكتة البايخة دي، أنا كنت شايفة المصيبة جاية بس مقدرتش أعمل حاجة غير إني أتفرج برعب.
      
      عينين مس كلارك برقت، وهدوءها اتكسر وطلع غضب يا دوب مستخبي. جسمي كله اتشنج وهي بتشاور بصباعها على الباب بعنف.
      
      "بره!" صوتها هز الفصل زي طلقة مدفع. عضلاتي كانت بتصرخ فيا عشان أهرب وأنا مكورة على نفسي تحت قوة غضبها الكاملة.
      
      جيف وشه اصفّر، وكش تحت غضبها اللي يسلخ الجلد. نط من مكانه، وجري على الباب قبل ما نظرتها الحارقة تحوله لرماد.
      
      ساد صمت يرن بعد ما هرب، ومحدش كان قادر حتى ياخد نفسه. مس كلارك غمضت عينيها، وواضح إنها بتحاول تسيطر على نفسها. لما فتحتهم تاني، نظرتها كانت بتهدد بعذاب بطيء لأي حد غبي كفاية إنه يتحدى سلطتها تاني.
      
      صدري اتقبض من الرعب الخالص. قوة الست دي كانت مطلقة - وإنك تثير غضبها ممكن يجيبلك دمار شامل.
      
      ولما غضب مس كلارك المسموم بدأ يهدى بالتدريج، الفصل فضل متجمد في مكانه في ترقب وخوف. عينيها الحديدية مسحت الأوضة تاني.
      
      "حد تاني عنده أي حاجة يحب يضيفها؟" سألت بصوت تلج.
      
      غمضت عيني جامد، ودعيت إن مفيش حد يكون بالسذاجة دي إنه يصحّي غضبها تاني بالسرعة دي. جسمي كله كان عامل زي الفريسة اللي حاسة بمزاج المفترس المتقلب، ومستعدة تهرب مع أول إشارة لعدوان جديد.
      
      صمت تام يصم الودان هو اللي رد على سؤالها. محدش اتجرأ يبص في عينها وهي بتتحدى، ولا طبعاً يتكلم من غير إذنه. كنا كلنا مصدومين من استعراض القوة الخام ده، وخايفين أوي إننا نلاقي نفس مصير جيف.
      
      زي ما تكون رضيت عن طاعتنا واحنا مرعوبين، مس كلارك هزت راسها هزة ناشفة ورجعت لوقفتها المتسلطة في أول الفصل. بس دقات قلبي السريعة فضلت ماشية مع إيقاع التهديد اللي لسه في عينيها: اعترض طريقي، وهتشيل العواقب.
      
      

      سنة في القديسة مارثا - قصه للكبار

      سنة في القديسة مارثا

      بقلم,

      للمراهقين

      مجانا

      بنت متمردة ومشاكلها كتير، أهاليها (أبوينها الاتنين) زهقوا منها وقرروا يبعتوها مدرسة داخلية في إنجلترا غصب عنها عشان تتعدل. بتوصل هناك وهي كارهة المكان، وبتحس بالوحدة وإن أهلها اتخلوا عنها. بتقابل زميلتها في الأوضة "ميجان" اللي شكلها لطيفة بس مصدومة من ماضيها. وبتقابل المُشرفة الأمريكية "آنسة بوين" اللي شكلها حلو بس شديدة، وبيبدأ بينهم تحدي من أول يوم.

      إيفي

      بتعمل مشاكل كتير (اترفدت قبل كده بسبب خناقات وبيع مخدرات). بتحس إنها اتسابت واتخذلت، وبتحاول تبين إنها قوية ومبتعيطش، بس هي مرتبطة جدًا بأبوها "تومي" وأخوها "أوين".

      آنسة بوين

      مُشرفة السكن ومُدرسة التاريخ والإنجليزي. أمريكية زي إيفي، جميلة جدًا وهادية، بس في نفس الوقت صارمة ومش بتسمح لإيفي تتجاوز حدودها (بترفض تقولها "إيفي" وبتصمم على "إيفلين" عشان تعلمها الاحترام).

      ميجان

      زميلة إيفي في الأوضة. بنت لطيفة وودودة، بس على نياتها شوية ومتربية كويس، واتصدمت لما عرفت ماضي إيفي.
      سنة في القديسة مارثا - قصه للكبار
      صورة الكاتب

      أنا زودتها أوي المرة دي. الحدود اتكسرت، والمرة دي، يمكن، باظت لدرجة مينفعش تتصلح.
      
      أبويا كان باين عليه التعب وهو بيدعك صدغه الأسمر، عينيه مقفولة، وكتافه واقعة. إيده اليمين كانت ماسكة الجواب، مكرمشاه ومطبقاه في قبضته اللي عمالة تضيق أكتر. رفع وشه للحظة لما أبويا التاني دخل الأوضة، وراح واقع على الكنبة جنبه وهو بيهز راسه. هو كمان، كان باين عليه مهزوم. بلعت ريقي، وحسيت بتوتر غريب وخيبة أمل من نفسي. هما طول عمرهم بيحاولوا على قد ما يقدروا يدوني أحسن عيشة ممكنة. كانوا عايزين أكتر من أي حاجة إن أنا وأخويا نكون مبسوطين. بس زي ما قلت، أنا زودتها أوي المرة دي؛ أنا خليتهم يبعدوا عني.
      
      "إيفلين،" أبويا بدأ كلامه. يا نهار أبيض، إنه يستخدم اسمي الكامل دي عمرها ما كانت علامة كويسة. "أنتي بالعافية كملتي تلات شهور في المدرسة دي. الموضوع ده مبقاش نافع خلاص."
      
      كشرت حواجبي. "أغلب الوقت أنا اللي كنت بستفز. يعني أنتوا بجد متوقعين مني أقعد ساكتة وأستحمل كل القرف اللي بيترمى في وشي ده؟"
      
      "احترمي كلامك،" أبويا التاني، كريستوفر، اتنهد، وهو بيرفع راسه شوية عشان يبصلي لأول مرة الليلة دي. "يا إيفي، إحنا مش هنفضل نوديكي مدارس و يجيلنا كل يوم جوابات وتليفونات إنك بتتخانقي أو بتعملي مصايب. ده مش عدل علينا ومش عدل على المدرسة." قلبت عينيا. ولا كأن المدرسة هممها. "دي آخر سنة ليكي في المدرسة، أنتي محتاجة تركزي بجد دلوقتي. واحد صاحبي في الشغل كان عنده مشاكل مع بنته من كام سنة فاتوا. كانت في نفس سنك وقتها، وبتتصرف بالظبط بنفس الطريقة. هو ومراته لقوا مدرسة شكلها كده بتساعد العيال اللي زيك. دي مدرسة داخلية، في ديفون."
      
      "ديفون؟" سألت. "فين دي كمان إن شاء الله؟" أياً كان مكانها فين، أكيد مكان زي الزفت وممل.
      
      كريستوفر عض على طرف شفته اللي تحت، وشوية قلق بدأوا يظهروا على ملامحه. "دي في الريف، في إنجلترا." هو قال آخر كلمتين بصوت أوطى شوية من الباقي، كأنه كان بيتمنى إنهم يعدوا من وداني من غير ما أسمعهم، وهما تقريبًا عملوا كده.
      
      وشي وقع للحظة بس قبل ما أستجمع نفسي ورجعت بضهري على الكرسي، ورجلي على رجل. "طبعًا، طب كويس أراهن إنك هتتبسط أوي هناك يا بابا. هبقى مستنية منك كارت بوستال،" ابتسمت، وصوتي كان بارد وساخر، رغم إن قلبي كان بيدق جامد تحت ضلوعي.
      
      تنهيدة تانية، المرة دي من تومي. "يا إيفي، إحنا اتكلمنا مع المدرسة وهما أكتر من مبسوطين إنهم ياخدوكي. هتبدئي الفصل الدراسي في سبتمبر وهتقعدي هناك طول السنة. أنا آسف، بس الموضوع ده مفيش فيه نقاش."
      
      جزيت على سناني، وفكي قفل. كنت حاسة بغضب مولع نار بيجري في عروقي كأن سد اتكسر فجأة وكل حاجة بتهرب بسرعة رهيبة. هما بيبعتوني بعيد. أهلي بيبعتوني بلد تانية لمدة سنة. هو أنا للدرجة دي وحشة؟ هو أنا بجد، بجد أستاهل ده؟ أنا اتخانقت، وشربت سجاير، وعملت مشاكل وسببت لأهلي صداع دايم، بس هو عادي إن الواحد يتخلى عن عياله؟ أنا اتسابلي مرة قبل كده، ودلوقتي بيحصل تاني.
      
      "مش هتقدروا تجبروني،" عرفت أرد من بين سناني، وإيديا مقفولة في حجري. كنت حاسة ضوافري بتغرز في جلدي، بس مكنش فارق معايا. "هتعملوا إيه يعني، هتجروني لإنجلترا من قفايا؟ أنا مش عيلة صغيرة."
      
      "أنتي ممكن تخلي الموضوع سهل علينا وعليكي، أو ممكن تخليه صعب جدًا. في كل الأحوال، أنتي رايحة. إحنا هناخدك قبل ما الدراسة تبدأ بأسبوع في آخر أغسطس، بس عشان تاخدي على المكان."
      
      هزيت راسي، وعينيا كانت بتلف في الأرض، بحاول أحبس الدموع اللي بتحرق عيني ومخلية الرؤية مشوشة. أنا مبعرفش أعيط قدام أي حد. ده بيخليني ضعيفة، وأنا عمري ما هعمل كده. أهلي كانوا دايمًا بيحاولوا يقنعوني إن العياط عادي، بس حتى وأنا موجوعة أكتر حاجة، عمري ما خليت دمعة واحدة مالحة تنزل من عيني. مقدرش أوطي نفسي للدرجة دي.
      
      "إيفي،" صوت واطي جه من عند الباب. مَرفعتش راسي، عشان خايفة دموعي تبان، بس أنا كنت عارفة الصوت الخجول ده بتاع مين. أخويا الصغير أوين دخل شوية كمان جوه الأوضة وأنا سامعة خطواته بتقرب. "أرجوكي اعملي كده. أنا مش عايزك تبقي شقية تاني. أنا بزعل أوي لما بتقعي في مشاكل." كنت سامعة الرعشة في صوته، وده كان هيموتني من الحزن.
      
      دقيقة عدت في سكوت، وكان سكوت يصم الودان.
      
      هو إني أوجع عيلتي كان أسهل من إني أسافر بعيد عشان أبدأ حياة مختلفة لمدة سنة؟ لأ، مكنش أسهل خالص. مفيش حاجة تتقارن بالألم الوحيد بتاع إنك تبقى عارف قد إيه خيبت أمل الناس اللي بتحبهم. مفيش حاجة خالص.
      
      "ماشي،" قلت في الآخر، وصوتي مبحوح ومخنوق. "أنا هروح. هجرب، هجرب بجد. بس لو كرهت المكان بعد أول فصل دراسي، ممكن أرجع البيت؟"
      
      شفت الراحة وهي بتغمر عيون أهلي. أبويا خد نفس ببطء قبل ما يهز راسه. "ماشي يا بنتي. بس أرجوكي، اوعدينا إنك هتدي الموضوع ده فرصة بجد."
      
      عضيت على شفتي، وبصيت في الأرض قبل ما أرفع راسي وأقابل نظرتهم. "أوعدكم."
      
      وده كان الوعد اللي غيّر حياتي.
      
      
      
      
      
      "ريحة المكان زي الزفت."
      
      كنت حاسة بأبويا بيقلب عينيه جنبي وإحنا قاعدين ورا في عربية الأجرة، ومعديين في الريف الإنجليزي تحت شمس أغسطس. بصراحة، أنا كنت مستغربة إن السما مكنتش بتمطر جامد أول ما وصلنا، لإنه شكل إنجلترا دي مشهورة بجوها الوحش، بس زي ما السواق بلغني بسرعة، "الجو الحلو ده مش هيطول يا حبيبتي، أنتي بس استني وشوفي."
      
      على يميني، أبويا لف عشان يبصلي. هو جه معايا إنجلترا، في حين إن أبويا التاني، كريستوفر، فضل هناك عشان ياخد باله من أوين. هما مكنوش شايفين إنها فكرة كويسة إنه ييجي معانا؛ أوين عيل لزقة أوي، ودايمًا كنت بلاقيه متعلق في رجلي زي الجرو. الموضوع كان صعب عليه، إنه يضطر يقول سلام، وبصراحة، كان صعب عليا أنا كمان، مع إن ده مكنش حاجة أنا مبسوطة إني أعترف بيها.
      
      "دي أكيد ريحة البقر،" أبويا قال وهو بيقلب عينيه مرة تانية. "اسمعي، إحنا قربنا نوصل، بس أنا بس كنت عايزك تعرفي قد إيه أنا وأبوكي فخورين بيكي إنك كملتي في الموضوع ده. أنا عارف إن ده هيبقى صعب عليكي، خصوصًا أول كام أسبوع. بس افتكري دايمًا إن إحنا على بُعد مكالمة تليفون، ماشي يا بنتي؟"
      
      ابتسمت نص ابتسامة وهو بيبعتر شعري وباسني من قورتي. ابتسامتي اختفت لما رجعت بصيت للشباك تاني، والقلق بيزيد جوايا. أنا كنت مصممة إني مبينش إني متضايقة أوي؛ كنت عارفة إن ده هيزعله بس. أنا وتومي كنا دايمًا قريبين من بعض؛ أنا بحب أبويا التاني طبعًا، بس هو كان دايمًا مشغول يا إما بالشغل يا إما بأوين. تومي كان موجود عشاني في أي وقت كنت بحتاجه، وأنا عارفة قد إيه كان موجوع إنه مضطر يبعتني بعيد. هو كان أحسن صاحب ليا، ومن غيره، مكنش عندي أي حد تاني.
      
      فقت من سرحاني لما لفينا من على زاوية ووقفنا قدام مبنى ضخم، شكله قديم أوي. أنا كرهته خلاص. بره كان فيه كام مجموعة بنات واقفين، لابسين قمصان بيضا مدخلينها في جيبات كاروهات أبيض في أسود طولها لحد الركبة. بقي اتفتح من القرف وأنا ببص على الزي الموحد. السواق فتحلي الباب قبل ما يلف يروح شنطة العربية عشان يجيب شنطي، اللي حطها جنب العربية. لفيت لأبويا، اللي كان بيبصلي بلمعة توسل في عينيه.
      
      "متحكميش عليه من دلوقتي يا إيفي. مين عارف، يمكن تحبي المكان هنا أوي يا بنتي." هو فتح بابه ونزل، ولف من ورا العربية لحد ما جه جنبي. مد إيده وأنا مسكتها غصب عني، وأنا بحط رجلي على الممر اللي كله زلط.
      
      واحدة ست طويلة، شكلها في نص الخمسينات، قربت مننا وهي مبتسمة. كان شعرها غامق، ماعدا الخصل الفضية اللي ضاربة فيه، ومدت إيدها لأبويا، وهي بتسلم عليه. "أكيد حضرتك مستر لويس."
      
      أبويا هز راسه. "أرجوكي، قولليلي تومي. شكرًا جدًا إنك اديتي لبنتنا الفرصة دي. إحنا بجد متشكرين."
      
      "أكيد،" ردت بابتسامة تانية، وعينيها جت عليا. مدت إيدها ليا المرة دي، وقالت، "إيفلين، يا لها من سعادة. أنا مدام فينشلي." سلمت عليها، بس مردتش الابتسامة، وبدلًا من ده اتجنبت أبص في عينيها وقعدت أبص حواليا في أرض المدرسة. "أنا هسيبك تقولي سلام لأبوكي. سعدت بلقائك يا مستر لويس." ومع الكلمة دي، لفت ومشت بعيد بالراحة.
      
      بصيت لأبويا، وأنا برمش وبعضعض في خدي من جوه عشان أمنع نفسي من العياط. هو فتح بقه عشان يتكلم، بس أنا رميت دراعاتي حوالين رقبته، وحضنته جامد. شميت ريحته المألوفة لآخر مرة وغمضت عيني جامد للحظة، قبل ما أبعد.
      
      "أشوفك قريب يا بنتي،" هز راسه، ودمعة في عينه وهو بيبوسني من خدي ولف، وركب في الكنبة اللي ورا في العربية.
      
      "سلام يا بابا،" همست وهو بيقفل الباب والسواق بيدور الموتور. اتفرجت على العربية وهي بتلف وترجع تاني في الطريق الريفي الملتوي لحد ما اختفوا عن عيني. حسيت فجأة بإحساس عميق بالوحدة مسيطر عليا وأنا واقفة وكل حاجتي في شنط على الأرض قدام عينيا.
      
      "إيفلين؟"
      
      رفعت وشي، وشفت مدام فينشلي واقفة قدامي مرة تانية.
      
      "أنا مش هعمل نفسي إن الموضوع ده مش هيكون صعب، بس أنتي هتتعودي على الدنيا هنا،" هي حاولت تطمني، بس أنا حسيت بالعكس تمامًا. "تعالي ورايا، هوريكي أوضة سكنك وهناك هتقابلي قائدة السكن بتاعتك. هي هتعملك جولة في باقي المدرسة. سيبي شنطك، حد هيطلع يجيبهم لأوضتك كمان لحظة." هي بدأت تمشي وأنا مشيت وراها جنبها.
      
      "قائدة سكن؟" سألت.
      
      مدام فينشلي هزت راسها بابتسامة. "كل جناح فيه حوالي عشر غرف سكن. كل جناح متعين عليه مدرسة واحدة، وعندها أوضة هناك. هما هيبقوا موجودين عشان يجاوبوا على أي أسئلة، يحلوا أي مشاكل، ويتأكدوا إن الكل ماشي على القواعد. لو أنتي مش متأكدة من حاجة أو عندك مشكلة، قائدة السكن بتاعتك هي أول حد تروحيله." هي طلعت ورقة من سترتها الكحلي، فردتها و بصت في الكلام بسرعة. "أه أيوة، أنتي في جناح نايتنجيل. ده مش بعيد أوي، تعالي ورايا يا آنسة لويس."
      
      "نايتنجيل؟"
      
      "ده اسم الجناح بتاعك. كل جناح متسمي على اسم ست مهمة في التاريخ. في حالتك، الجناح بتاعك متسمي على اسم فلورنس نايتنجيل. أفترض إنك سمعتي عنها؟"
      
      هزيت راسي.
      
      "كويس. بصي يا آنسة لويس، هنا في مدرسة القديسة مارثا للبنات، إحنا بنقبل بنات من كل الخلفيات. بس، إحنا عندنا هدف واحد ليهم كلهم: إننا نضمن إنهم يسيبوا المدرسة دي وهما شابات متزنات، ومحترمات وعندهم فرصة في مستقبل مشرق. فاهمة؟" مرة تانية، هزيت راسي. "إحنا عندنا قواعد هنا يا إيفلين. ممكن تاخد شوية وقت، بس أنتي هتتعلمي تلتزمي بيها."
      
      "شكله سجن ده،" تمتمت، وأنا بتنهد بصوت عالي.
      
      إحنا كنا جوه المبنى دلوقتي، طالعين على سلم ماهوجني ملفوف. في الآخر، وصلنا لباب، اتفتح على طرقة طويلة، فيها حداشر باب متوزعين على الجناب. هي خدتني لتالت باب على إيدنا الشمال، وفتحته بمفتاح وبعدين حطته في إيدي.
      
      "خلي ده معاكي. لو ضيعتي مفتاحك، هتضطري تدفعي 5 جنيهات عشان واحد بداله."
      
      قلبت عينيا. "لا سمح الله."
      
      جوه الأوضة كان فيه سريرين، واحد على كل جنب في الأوضة. السرير اللي على اليمين كان باين عليه متاخد خلاص، وعليه مجموعة مخدات ألوانها فاقعة متوزعة عند راس السرير. كان فيه دولابين، برضه على كل جنب في الأوضة، ووحدة أدراج على شمال الباب. مراية بطول الجسم كانت متعلقة على الحيطة جنب الشباك، وسجادة بيضا صغيرة مفروشة على الأرضيات الخشب.
      
      "شكله كده سريرك هو اللي على الشمال. خدي راحتك، وأنا هبلغ قائدة السكن بتاعتك إنك وصلتي. هيبعتولك جدولك قريب. الحصص هتبدأ الأسبوع الجاي." هي لفت ومشت ناحية الباب، قبل ما تقف لحظة وتلف تاني. "أهلًا بيكي في القديسة مارثا يا آنسة لويس."
      
      استنيت لحد ما الباب قفل و عمل صوت تكة عشان أروح ناحية السرير الشمال، وقعدت عليه ورفعت ركبي على صدري. سندت راسي على الحيطة، وغمضت عيني وخدت نفس عميق.
      
      "اجمدي بقى يا إيفي،" همست لنفسي، وأنا بعض شفتي وبترجى نفسي متعيطش. "بطلي هبل بقى."
      
      خمس دقايق أو حاجة عدوا قبل ما حد يخبط على الباب تلات مرات. رمشت بسرعة، وأنا بتمنى عينيا متبانش إنها مدمعة، قبل ما أقول بصوت واطي "ادخل."
      
      
      
      
      
      الباب اتفتح، وواحدة ست دخلت. كانت لابسة فستان أسود ضيق لحد ركبتها، وكعب عالي أسود. شعرها البني الكتير كان نازل على كتفها اليمين في موجات ناعمة. عينيها الغامقة جت في عينيا، ولقيت نفسي ببحلق فيها، مستغربة إزاي واحدة بالشكل ده ممكن تشتغل في مكان كئيب زي ده. جمالها كان مفيش عليه كلام.
      
      شيلت عيني من عليها، وفوقّت نفسي من السرحان، ووجهت أفكاري لمسارات أأمن وأنا بحاول أصدق إني لسة كنت معجبة بواحدة غالبًا يعني مدرسة. هي راحت ناحية سريري، وابتسامة مرسومة على شفايفها الوردية اللي بتلمع. "أنتي إيفلين، صح؟" أنا اتفاجئت من لهجتها. أمريكية؟
      
      "إيفي، في الحقيقة،" رديت ببرود.
      
      هي مابانش عليها إنها اتفاجئت من نبرتي. "عمومًا، دي حاجة لطيفة إن فيه واحدة أمريكية زيي موجودة هنا. أنا آنسة بوين، قائدة السكن بتاعتك. أنا كمان هدرسلك تاريخ ولغة إنجليزية."
      
      "تمام."
      
      آنسة بوين فضلت تبصلي كأنها بتدرسني لكام لحظة، وعينيها بتلف على وشي. "عندك مانع لو قعدت؟" هي شاورت على المكان الفاضي جنبي على السرير.
      
      هزيت كتفي. "لو مصممة يعني."
      
      هي قعدت جنبي، وحطت رجلها الشمال على اليمين وعدلت جسمها عشان تبقى في وشي. راسها مالت شوية شمال، وابتسامتها اختفت. بدلًا من ده، نظرة تفهم وراحة زحفت ورا عينيها. "الموضوع صعب، مش كده؟"
      
      "مش أوي."
      
      للحظة، هي سكتت. "مش لازم تكدبي عليا يا إيفلين. أنا عارفة أكتر من أي حد الموضوع ده ممكن يكون صعب قد إيه."
      
      "إيفي. اسمي إيفي."
      
      تنهيدة طلعت من شفايفها. "يلا، خليني أفرجك على المكان."
      
      غصب عني، مشيت وراها وهي بتفرجني على المدرسة، ورتني الملعب الكبير اللي بره، والفناء، وقاعة الأكل، والفصول اللي هستخدمها. أربعين دقيقة عدوا لما أخيرًا وصلنا أوضتي تاني، في الوقت ده كله أنا كنت تمتمت بإجمالي تلات كلمات للست دي، كلهم كانوا يا أه يا لأ.
      
      "أوضتي أهي،" هي شاورت على الباب اللي في أول الطرقة، على بعد كام متر بس من أوضتي. "لو احتجتي أي حاجة، خبطي بس. العشا الساعة خمسة، يعني قدامك حوالي نص ساعة تظبطي دنيتك. شنطك المفروض تكون في أوضتك خلاص. ماشي يا إيفلين؟"
      
      "هو أنتي عندك زهايمر؟ كام مرة كمان لازم أقولك إنه إيفي؟ اسمي إيفي،" زعقت بغضب. كان نفسي أهزها. أنا يادوب بقالي هنا خمس دقايق وحد قاصد يعصبني.
      
      وش آنسة بوين كان هادي ومفيش عليه أي تعبيرات. اتنهدت تنهيدة صغيرة. "الواحد بيستخدم الاسم اللي الشخص بيفضله لما يكون فيه احترام متبادل بينكم. أنا مش شايفة أي حاجة من دي دلوقتي يا إيفلين." هي لفت ودخلت أوضتها، وسابتني واقفة في الطرقة، لوحدي ومتعصبة على الآخر.
      
      وأنا راجعة أوضتي، لمحت بنت، غالبًا زميلتي في الأوضة، قاعدة على سريرها، وبتقلب في مجلة. هي رفعت وشها لما دخلت، وهي بتحط شعرها الأشقر المحمر اللي طوله لحد كتفها ورا ودنها.
      
      "أهلًا،" هي رحبت بابتسامة، ورمت المجلة على جنب وقامت وقفت. "أنا ميجان. أفهم من كده إنك زميلة الأوضة الجديدة اللي عمالين يقولولي عليها؟"
      
      هزيت راسي. "إيفي. وأه، شكلها أنا."
      
      هي ابتسمت ابتسامة عريضة، وأنا كشرت ومكنتش فاهمة. "معلش، أصل غير آنسة بوين، إحنا مبيجلناش أمريكان هنا. لهجتك جامدة."
      
      "شكرًا،" تمتمت، بأكبر ابتسامة قدرت أطلعها.
      
      لما شفت شنطي جنب سريري، بدأت أفك حاجتي، وأعلق هدومي في الدولاب وأطبق باقي حاجتي في الأدراج.
      
      "المهم، أنتي هنا ليه؟" سألت ميجان وهي بتفتح مجلة جديدة وبتبدأ تقرا في أول صفحة.
      
      ميجان بصتلي. "هنا ليه إزاي؟"
      
      "أيوة، قصدي عملتي حاجة وحشة؟"
      
      هي ضحكت، كأني قولت نكتة. "لأ. أهلي شداد شوية، بس أنا عمري ما عصيتهم. دي مش مدرسة بتاعة العيال بتوع المشاكل بس، أنتي عارفة. ده مكان ليه اسم كبير أوي. هما متخصصين طبعًا في إنهم يخلوا العيال الزبالة يمشوا على الصراط المستقيم، بس إحنا مش بيجيلنا منهم كتير،" هزت كتفها، وهي بتلف على جنبها وبتضيق عينيها. "طب وأنتي عملتي إيه؟"
      
      "أنا اترفدت من آخر مدرستين ليا."
      
      عينين ميجان وسعت. "يا نهار أسود. ليه؟"
      
      هزيت كتفي. "مخدرات، خناق، سجاير، قلة أدب عامة، كده يعني. كل الهري المعتاد ده."
      
      ميجان اتعدلت في قعدتها، وتعبيرات وشها كانت هتخليني أضحك. "مخدرات؟ أنتي بتشربي مخدرات؟ يا إلهي، من وسط كل الناس أتحط في أوضة مع واحدة مدمنة."
      
      "إيه، أنا مش مدمنة يا حاجة،" رديت وأنا بقلب عينيا. "لأ، أنا مش بشرب مخدرات. أنا بس كنت ببيعها شوية. فلوس سهلة، بصراحة. بس المدرسين معجبهمش الموضوع أوي؛ اترفدت في ساعتها."
      
      "يا إلهي،" قالت وهي متنحة، مع إني مكنتش شايفة إن الموضوع كبير أوي. "المهم، أحسنلنا نمشي. العشا كمان خمس دقايق. ممكن تقعدي معايا لو حبيتي."
      
      هزيت كتفي. "ماشي." كان إحساس غريب إن حد يعرض عليا أقضي وقت معاه. الناس دايمًا كانوا بيعوزوني بس لما يكونوا محتاجين حاجة. كان إحساس صعب إن الواحد يبقى مستغل.
      
      العشا كان عادي جدًا. أنا قعدت جنب ميجان وبنت تانية من جناح نايتنجيل اسمها كلاريس، كانت باين عليها لطيفة، بس يمكن رغاية شوية. الساعة ستة، كان مسموحلنا نرجع أوضنا، أو، بما إن الدراسة لسة مبدأتش، نروح نقعد مع الناس في الأوضة المشتركة. مع إن ميجان كانت رايحة هناك مع كلاريس، وعزمت عليا أروح معاهم، أنا رفضت، وقلتلها إني لسة عندي حاجات مفكتهاش. مكنش عندي، بس أنا كنت هموت على شوية هدوء وسلام.
      
      وأنا داخلة الجناح بتاعنا، لمحت آنسة بوين جاية في نفس الاتجاه من طرقة تانية. اتقابلنا عند الباب في نفس اللحظة، وهي فتحتلي الباب عشان أعدي.
      
      "شكرًا،" هزيت راسي.
      
      "العفو،" آنسة بوين ردت. "إيه رأيك في العشا؟"
      
      مكنتش فاهمة هي ليه أصلًا مهتمة، فهزيت كتفي. "كان كويس." لفيت بعيد، ومسكت أوكرة باب أوضتي.
      
      "الدنيا هتبقى أسهل،" قالت من ورايا.
      
      وقفت لكام لحظة. ولما لفيت، بابها قفل وعمل تكة. آنسة بوين كانت مشيت. رحت على الركن في الأوضة المعتمة اللي نورها مطفي، ومتعبتش نفسي أنور أي نور، وقعدت وضهري لازق في الحيطة السقعانة. تيار هوا خفيف من الشباك خلى جلدي يقشعر، وأنا اترعشت. حالة جبارة من الإحساس بالهجران بلعتني كلها؛ أنا كنت لوحدي مرة تانية.
      
      

      روايه الجميله وراعي البقر

      الجميله وراعي البقر

      بقلم,

      تاريخية

      مجانا

      بنت اسمها نويمي، أبوها السكير والمفلس بيبيعها لراجل غريب عشان يسدد ديونه بعد الحرب. بتسافر معاه بالقطر لبلد جديدة في الغرب الأمريكي، وهناك بتقابل الراجل اللي اشتراها، "راعي بقر" وسيم وغامض اسمه ريفن بلاكستون. بتكتشف إن البيعة دي عبارة عن جوازة غصب عنها لازم تتم فوراً في الكنيسة. بعد مراسم باردة، بتسيب أبوها وتمشي مع جوزها الجديد لمصير مجهول. نويمي بتقرر إنها لازم تكون قوية وتنجو بحياتها الجديدة مهما كانت صعبة.

      نويمي

      رغم الظروف اللي هي فيها. أبوها "باعها" عشان يسدد ديونه. هي خايفة بس مصممة تكمّل وتعدي من الأزمة دي، وعندها كبرياء خلاها متخافش تواجه "ريفن".

      ريفن بلاكستون

      "راعي البقر" اللي اشترى نويمي. راجل وسيم بشكل قاسي، وشه مليان ندوب، وغامض جداً. باين عليه إنه مسيطر والناس بتخاف منه. بارد ومبيتكلمش كتير، لكنه أظهر جانب حنين لما هدأ نويمي وقت نوبة الهلع بتاعتها

      والد نويمي

      راجل سكير ومفلس رجع من الحرب. باع بنته مقابل الفلوس عشان يسدد ديونه. شخصية ضعيفة ومنهارة، وكل اللي همه الفلوس والويسكي.
      الجميله وراعي البقر
      صورة الكاتب

      نويمي
      
      القعقعة المنتظمة لقضبان القطار تتردد أصداؤها عبر المقعد الخشبي تحتي، اهتزاز ثابت يرتجف في عمودي الفقري ويصل إلى عظامي. الهواء داخل عربة القطار ثقيل بروائح أجساد لم تُغسل، وصوف رطب، وتبغ محروق لاذع، لكن كل ده مكنش مهم—طالما عيناي مُثبتتان على الدنيا التي تجري مسرعة خلف نافذة عربة الطعام.
      
      الزجاج بارد على أطراف أصابعي وأنا أضغط يدي عليه، أراقب المشهد المهزوز يتكشف مثل صفحات قصة لم أقرأها من قبل.
      
      السماء زرقاء باهتة، من النوع الذي يبدو وكأنه مشدود أكثر من اللازم، والأرض تحتها تمتد في موجات لا نهاية لها من العشب الذهبي، مرقطة ببقع من الخضرة العنيدة. ثم، يبطئ القطار مع اقترابه من منعطف، وتصبح الدنيا أوضح.
      
      أنفاسي اتحبست لما رأيت ما أمامي.
      
      هناك، على ضفاف النهر الأزرق الصغير، تقف ذئبة رمادية مع جرويها، فراؤهم الفضي يتموج في الريح، رطب وملتصق بالطين العالق ببطونهم. كانوا يمزقون البطون الطرية لسمك نفق على الشط، أسنانهم الصغيرة تنهش اللحم بشراهة وهو يلمع في ضوء آخر النهار.
      
      الذئبة الأم تقف فوقهم، عضلاتها مشدودة تحت فرائها، أذنيها منتصبة نحو القطار. عيناها الذهبيتان تلتفتان إلى النوافذ، إلى القطار المتباطئ، وتتثبت في عينيا لثانية وجيزة بينما تمر عربتي بجانبها. شعرت بشيء يقبض جوه صدري.
      
      كانت تراقبني حتى اختفت عن نظري. ليس خوفاً، ولا فضولاً، ولكن كتحذير.
      
      هي تعرف أن عليها إبقاء صغارها قريبين منها، لحمايتهم من الأخطار التي تتربص بهم داخل البرية وخارجها.
      
      حاجة كان نفسي حد يعملها علشاني.
      
      أطلق القطار صُفارة طويلة ومجوفة، تشق الهواء زي السكينة لتُعلمنا أننا على بعد أميال قليلة من وجهتنا، فرفعت الذئبة الأم رأسها أعلى، وفتحات أنفها اتسعت.
      
      هي عارفة الصوت ده معناه إيه. وإحنا معنانا إيه. دفعت جرويها أقرب إلى الغابة خلفها، بعيداً عن الضجيج، بعيداً عن السكة التي تفصل البرية عن البشر اللي مسميين نفسهم أسيادها.
      
      هنا، هي فريسة. مبقتش مفترسة.
      
      وإحنا اللي بقينا المفترسين.
      
      الفكرة جعلت معدتي تتقلب. أصابعي انكمشت على الزجاج. الذئبة لم تهرب. وقفت مكانها، متثبتة في الأرض، تحدق في الوحش الحديدي الذي يحملني بعيداً عن كل شيء عرفته يوماً. أتساءل إن كانت تشعر بنفس الشد في صدرها، نفس الوجع المتململ الذي يخبرها أن تهرب قبل فوات الأوان.
      
      ثم، بينما بدأت آخر عربة في القطار بالمرور، خفضت رأسها واختفت وسط العشب الطويل، وجرويها يتبعانها كالظلال. اللحظة راحت، ابتلعتها حركة القطار الأمامية التي لا ترحم، لكنها بقيت عالقة في عظامي.
      
      أتساءل إن كانت ستفكر بي الليلة تحت ضوء القمر، بنفس الطريقة التي أعرف أنني سأفكر بها.
      
      القطر اهتز وبطّأ سرعته، عجلاته الحديدية تصدر صريراً فوق القضبان، وأبي يتمايل على الشباك المقابل لي، رأسه تخبط خبطة مكتومة في الإزاز. تمتم بشيء غير مفهوم، كلماته متهدجة وضائعة وسط القعقعة المنتظمة لعربة القطار.
      
      ريحة الويسكي فايحة منه في موجات، تقيلة وتخنق، تقلب معدتي أسوأ من تأرجح القطر نفسه. أدرت وجهي نحو النافذة مرة أخرى، أبلع ريقي ضد الغثيان، لكن هذا لم يساعد. لا شيء يساعد.
      
      مبقتش عارفة عدى كام كاس شربه منذ صعودنا. يرفع قزازته بين المحطات، يعيد ملأها كلما وجد يداً أخرى مستعدة لتناوله زجاجة. لقد كان مخموراً منذ عودته من الحرب—راجل مهزوم لم يتبق له شيء سوى زجاجة في يد وديون في الإيد التانية.
      
      لكن المرة دي... الوضع أوحش.
      
      ربما العار هو الذي يغرقه الآن، يسحبه أعمق في الزجاجة، أو ربما هذا هو ما أصبح عليه.
      
      راجل أجوف باع بنته تمن لخطاياه.
      
      أمسك بالحافة البالية لمقعدي، أصابعي تغوص في الخشب المتشقق، بحاول أخلي إيديا تبطل تترعش.
      
      مش من الخوف.
      
      أبداً مش من الخوف.
      
      ولكن من تقل كل ده—تقل جسده المائل في غيبوبة ويسكي، وتقل القطار الذي يسحبني أبعد وأبعد عن كل ما عرفته في حياتي، وتقل ما ينتظرني في آخر السكة.
      
      في الخارج، المشهد سحابة ضباب، يجري في خطوط من الذهب والأخضر. ولّت تلك الأشجار الكثيفة الباكية وحرارة لويزيانا البطيئة التي تقطع النَفَس. لا مزيد من مياه المستنقعات تلطش على حواف الطرق المرصوفة بالطوب، لا مزيد من أشجار السرو الصلعاء تقف كحراس صامتين في الضباب.
      
      هذا المكان مختلف.
      
      مفتوح.
      
      واسع.
      
      الهوا هنا ممتد عبر تلال متدحرجة لا نهاية لها، السماء كبيرة وباهتة، كما لو أنها مُسحت من عليها الألوان. في الأفق، ترتفع قمم الأشجار كأسنان مسننة، قممها الخضراء تتلاشى في الضباب.
      
      أتساءل كيف سيكون الشعور لو تسلقت إلى قمة إحداها، ونظرت إلى العالم بالأسفل وشعرت بأنني صغيرة، بس حرة.
      
      داخل القطار، الدكك الخشب ناشفة تحتي، حوافها ناعمة من كتر استعمال المسافرين الذين سبقوني—أناس كان لديهم مكان يذهبون إليه، مكان يهربون إليه، مثلي تماماً. القطار يتأرجح، والأرضية تحت حذائي تهتز مع صوت 'تك-تك' القضبان الثابت، صوت أصبح مألوفاً أكثر من اللازم.
      
      يجب أن أكون خائفة. لكني لا أعرف إن كنت حتى أتذكر كيف يبدو هذا الشعور. لا يوجد سوى هذا التنميل الباهت، يتسلل كشبورة بطيئة، ينعّم حواف كل شيء قبل أن يجرح بعمق.
      
      ربما عقلي بيحمي نفسه. ربما يعرف أنه من الأفضل ألا يدعني أشعر بكل شيء مرة واحدة. العقل ده حاجة غريبة.
      
      أخرجت نفَساً، بطيئاً وثابتاً، ضاغطةً بظهري على مسند الدكة الصلب. لم يتبق لي شيء من أمي سوى الكتاب الذي أعطتني إياه—لا ممتلكات، لا رسائل، لا أثر لها سوى ما هو محفور جوه عضمي.
      
      بس لسه كلامها معايا.
      
      وأنا أتمسك به كما لو كان آخر شيء يبقيني واقفة على حيلي.
      
      اسمك نويمي هالي، وإنتي هتعدي من ده.
      
      لذا...
      
      اسمي نويمي هالي، وأنا هعدي من ده.
      
      أفكر في اليوم الذي كان أبي بيستعرضني فيه في ذلك البار المعتم المليان دخان في نيو أورلينز—الطريقة التي انحنى بها الرجال، ضحكهم التقيل بالويسكي، ابتساماتهم تلتوي كالنسور التي تحوم حول فريسة طازة. كيف رفع تلك اللوحة، يمررها من طاولة إلى أخرى، تاركاً عينيهم الجعانة تاكلني حتى قبل أن تفعل أيديهم ذلك.
      
      كنت شيء، صفقة، فرسة معروضة في مزاد. أصابعهم لمست ذراعي، خصري، شعري، يختبرونني، كما لو كان لهم الحق.
      
      لسه مش مصدقة إنه عملها. بس برضه، لأ، مصدقة.
      
      لقد خسر كل شيء—كبرياءه، حربه، وعقله. أنا كل اللي فاضل له عشان يتاجر بيه.
      
      القطر اتنتع، الوحش الحديدي يئن تحتنا بينما تصرخ العجلات على القضبان. اندفعت للأمام، ممسكة بالمقعد حتى لا أسقط في الممر.
      
      أبي بالكاد اتحرك، فقط تمتم بشيء تحت أنفاسه وترك رأسه يرجع لورا على النافذة الرطبة.
      
      ثم، صمت.
      
      الموتور طلع نَفَس طويل فيه صوت هسيس، وعرفت أننا وصلنا.
      
      رمشت بعيني، أجر نفسي من سحابة الذكريات، أصابعي متيبسة وهي تبتعد عن المقعد.
      
      إندبندنس، ميزوري. راح خلاص الحر المِعقَّد اللي بيخنق بتاع لويزيانا. مكان جديد، كابوس جديد.
      
      خارج النافذة، تمتد البلدة أمامي—كلها تراب، ودوشة، وتغلي بالحياة.
      
      رصيف القطار كان بحراً من الحركة من حيث أراقب عبر النافذة. رجال يرتدون برانيط عريضة ومعاطف عليها خطوط تراب بيتمطعوا بالقرب من المحطة، بعضهم يصرخ لبعضهم البعض فوق هسيس البخار، وآخرون يراقبون الركاب الوافدين بفضول باهت بينما ينتظرون في طابور للنزول من القطار. نساء يرتدين فساتين قطن باهتة يمسكن بأيدي أطفالهن، وجوههن مجهدة، وشعرهن مسحوب في كعكة مشدودة تحت قبعاتهن. أطفال بيجروا بين الصناديق والشنط، أقدامهم الحافية تطير التراب وهم ينسلون عبر الحشد.
      
      رجل مشمر دراعاته لحد كوعه يرمي شكاير تقيلة على عربة، صوت خبطة الغلال على الخشب بالكاد مسموع وسط جلبة الركاب المستعجلين الذين يحاولون النزول بسرعة. عربة حنطور تقف بالقرب من نهاية الرصيف، فريق خيولها يدب في الأرض بزهق، يهشون الذباب المتجمع في الحرارة بذيولهم. رائحة العرق، ورائحة التراب التي تسبق المطر، والروث تملأ الهواء، تختلط بالرائحة الحادة لدخان فحم الموتور الذي أجلس فيه.
      
      بلعت ريقي بصعوبة، أحاول استيعاب كل هذا، لكن الموضوع كان ضخم—أكبر من اللازم، أسرع من اللازم، وغير مألوف.
      
      الأرض تبدو أوسع هنا، تمتد في كل اتجاه، جامحة ومفيش ليها آخر.
      
      مفيش مكان أستخبى فيه.
      
      باب القطار انفتح بصوت صرير، وبدأ الركاب يجروا رجليهم للخارج، أحذيتهم تحتك بألواح الرصيف الخشبية البالية. لم أتحرك. لسه شوية. أبي تحرك أمامي، يفرك وجهه، لكني بالكاد لاحظته.
      
      بدلاً من ذلك، ضغطت بكف إيدي على الشباك، أشعر بالزجاج البارد تحت أطراف أصابعي، نبضي ثابت وبطيء. ها هي. نهاية قفص وبداية قفص تاني.
      
      اسمي نويمي هالي، وأنا هعدي من ده.
      
      تبعت أبي وهو بيترنح وهو قايم من مكانه عندما خفت الطوابير عند كلا الطرفين، مشيته مش متزنة وبيطوح وهو يشق طريقه نحو المخرج.
      
      الرصيف كان مليان دوشة—أناس يصرخون، قعقعة معدنية للشنط وهي تُسحب من القطار، صهيل الخيول المتململ المربوطة قريبة جداً من بعضها—لكن كل هذا بدا بعيداً، مكتوماً، كما لو كنت بتفرج عليها من ورا لوح إزاز تخين.
      
      يداي تشتدان حول أحزمة الحقيبتين الصغيرتين اللتين أحملهما، عقل صوابعي وجعاني من شدة قبضتي عليهما. أركز على الوزن، الضغط، أي شيء ليبقيني ثابتة.
      
      وبعدين شفته.
      
      كان يقف عند طرف الرصيف، بعيد عن الفوضى دي، طويل وثابت، كما لو أن العالم من حوله لا يلمسه بالطريقة التي يلمس بها أي شخص آخر. آخر شعاع شمس قبل ما تمطر يقطع وجهه تحت حافة قبعة رعاة البقر السوداء المليئة بالتراب، ينعكس في عينيه الرمادي الغامق اللي زي لون العاصفة. كانت عيناه تتنقلان فوق الركاب الوافدين، بلا اهتمام، بانفصال.
      
      لحد... ما جت عليا.
      
      للحظة، نسيت أتنفس.
      
      وجهه كان كله زوايا حادة وملامح خشنة، فك قوي يؤدي إلى رقبة تحمل ندوباً قديمة—ندوب تمتد من تحت خط فكه، تختفي تحت ياقة معطفه المتهالك. كانت مشرشرة، ومش متساوية، من النوع الذي تتركه المعارك والزمن.
      
      لم أرها من قبل، ليس في النور الخافت بتاع البار في لويزيانا عندما كان يربط قناعاً على فكه، مخبيها عن الأنظار. لكن هنا، تحت السماء المظلمة، كان مستحيل تجاهلها.
      
      حتى مع وجودها—أو ربما بسببها—كان أكتر راجل وسيم بشكل مدمر شوفته في حياتي.
      
      شعره، بني غامق ومموج، يلف قليلاً حيث بيطل من تحت قبعته، الهوا بعتره وهو يحمل رائحة الخيول والتراب عبر المحطة.
      
      كان هناك شيء في الطريقة التي يقف بها، شيء خطير، ولكن ليس بالطريقة التي كان عليها الرجال في بلدي. مش بالطريقة اللي بتخليني أقشعر.
      
      لأ، ده مختلف.
      
      هذا رجل لا يحتاج أن يرفع صوته لكي يسيطر على أوضة، لا يحتاج أن يمد إيده على مسدسه عشان الناس تخاف منه. إنه رجل يحمل سمعته في وقفته، في الثقة الهادئة التي لا تهتز لشخص عدى من حاجات أسوأ من اللي الناس بتتهامس عليها.
      
      
      
      
      
      
      ودلوقتي، هو بيبصلي.
      
      تقل نظرته بعت قشعريرة حادة في ضهري، تحذير، وسؤال. المفروض أشيح بنظري بعيد، بس معملتش كده. مقدرتش.
      
      لأني إزاي معرفش، عارفة—إن ده الراجل اللي اتبعتله. أنا عارفة العيون دي. دي العيون اللي بصت جوه روحي وشافت حاجة تستاهل تتشرى.
      
      هو متحركش وإحنا بنقرب، مغيَّرش وقفته ولا رفع قبعته للتحية. هو بس بيتفرج، بعيونه الرمادية الباردة دي علينا، ومحدش يقدر يقراها.
      
      قلبي اتخبط في صدري، دقة حادة ومش منتظمة، واضطريت أفكر نفسي أتنفس—أفكر نفسي إن ده حقيقي.
      
      أنا مش هخاف.
      
      أنا هعدي من ده.
      
      اسمي نويمي هالي.
      
      "خمسة آلاف،" أبويا قالها بلسان تقيل، وهو بيشاور بإيده بكسل في الهوا وإحنا بنقف عند طرف الرصيف الخشبي.
      
      نظرة الراجل اتنقلت ليا، ببطء وتقييم، وفجأة حسيت إني قليلة أوي. مش زي ما حسيت زمان في نيو أورلينز، لما الرجالة كانوا بيبصولي كأني حاجة تتاخد، تتقلب، تتمتلك. ده مختلف. عينيه مش بتبص ببجاحة—دي بتوزن، بتضغط عليا زي قوة من قوى الطبيعة، زي الهوا التقيل قبل ما العاصفة تهب.
      
      "ده كان الاتفاق،" قال كده، صوته واطي وثابت، من النوع اللي يستقر جوه الصدر زي حاجة مابتتهزش.
      
      ده بعت فيا رعشة، مش من الخوف، ولا من القرف—من حاجة تانية خالص. حاجة مفيش ليها اسم عندي.
      
      أجبرت نفسي أرفع وشي، أقابل نظرته عين في عين.
      
      عينيه كانت زي الهدوء اللي قبل العاصفة—سحب رعد مستنية تمطر، غامقة وملهاش آخر، وللحظة، حسيت إني بغرق، بتسحب لتحت بتيار مقدرش أقاومه. هو وسيم، بس مش بطريقة تخليك تطمن. فيه حاجة خشنة فيه، حاجة مش متساوية، كأنه اتنحت من الصخر واتساب في الهوا يعتق. بس فيه حاجة تانية كمان—حاجة مكسورة. حاجة تخليني عايزة أبص بعيد، حتى وإنا بجبر نفسي معملش كده.
      
      "أيوة،" أبويا تمتم، وهو بيفوق وبيتلفت، عقله خلاص راح للكاس اللي جاي. "هي بتاعتك أول ما آخد الفلوس."
      
      راعي البقر هز راسه، مرة واحدة بس. "تعالي معايا،" قالها، صوته مبيسمحش بأي نقاش. بعدين لف ومشي، حتى مكلفش نفسه يشوف أنا وأبويا ماشيين وراه ولا لأ.
      
      فضلت واقفة مكاني، رجليا تقيلة على ألواح الرصيف البالية، الخشب تحتي لسه بيترعش من تقل القطر.
      
      أهي دي.
      
      أهي دي حياتي دلوقتي.
      
      بصيت ورايا على أبويا، بدور على—إيه؟ لحظة تردد؟ إنه يفكر تاني؟ بس هو حتى مستخسرش فيا دي. كان خلاص بيترنح ورا اللي اشتراني، خلاص بيمد إيده على تمنه، خلاص بينساني. الغصة اللي في زوري زادت، ناشفة ومبتروحش، بس بلعتها. مفيش حاجة فاضلالي في نيو أورلينز. مفيش غير الوجع. مفيش غير وعود مكسورة.
      
      خدت نفس بطيء، فردت كتافي، ونزلت من على الرصيف.
      
      راعي البقر مشي قدامي بخطوات واسعة وليها هدف، معطفه بيتحرك مع كل خطوة. جزمته بتخبط في الأرض بثقة راجل متعود الناس تمشي وراه، متعود يتطاع، متعود يأمر.
      
      أبويا كان ماشي جنبه، مع إن خطواته كانت أقل ثبات، بيطوح شوية مع كل حركة. وأنا؟ كنت بجر نفسي وراهم، خطواتي سريعة أوي، ومش منتظمة، وأنا بحاول ألاحق خطوة راجلين خلاص قرروا مصيري.
      
      مسكت شنطي جامد أوي، حياتي كلها في الشنطتين الصغيرين دول، وزنهم تافه جنب الحقيقة الأتقل اللي ضاغطة عليا.
      
      حقيقة إني ماشية في اتجاه مستقبل مختارتوش.
      
      مستقبل ملك لراجل حتى معرفش اسمه.
      
      خلاص، هيفضل راعي بقر لحد ما يحس إنه عايز يعرف نفسه. راعي البقر... بتاعي، غالباً.
      
      بلدة إندبندنس بانت قدامي، مفرودة ومتململة، بعيدة كل البعد عن سكون بيتي الرطب.
      
      الشوارع كانت زحمة حركة، لخبطة متشابكة من الناس والحيوانات، عربيات كارو وعربيات بحصنة، أصوات بتزعق تعلى على بعض. فريق خيول عدى بيجرجر، حوافرهم بتطير التراب في سحب تقيلة وبتدور، دخلت في زوري. ست واقفة جنب فرشة السوق، شايلة ابنها على وسطها وهي بتفاصل مع بياع بيبيع فروع لافندر ناشفة. قريب منهم، مجموعة رجالة مأنتخين جنب ورشة الحداد، بيمسحوا العرق من على وشهم وهما بيتكلموا بصوت واطي، عينيهم بتيجي على راعي البقر اللي قدامي—وبعدين يبصوا بعيد بسرعة.
      
      لاحظت وقتها، إزاي الزحمة بتتغير حواليه، إزاي الناس بتوسعله من غير ما يطلب. شوية بيبصوا لفوق، فضول بيلمع في ملامحهم قبل ما يبصوا بعيد، كأن مجرد النظرة في عينه ممكن تحرقهم. وناس تانية مبتاخدش الريسك ده أصلاً، بيفضلوا موطيين راسهم، انتباههم متركز في أي حتة تانية غير عليه.
      
      وبرضو، هو مبطأش.
      
      أجبرت نفسي أفضل ماشية، بزاوغ بين الناس، بتفادى البراميل والصناديق وكيمان روث الخيل اللي سايبها مرور اليوم. إندبندنس مفيهاش أي حاجة من بيتي. حاساها أكبر. أدوش. أقسى. مفيش شجر سرو هنا، مفيش غطا تقيل من الرطوبة بيضغط على جلدي. مجرد حر ناشف، وتراب، وإحساس طاغي إني مش تبع المكان ده.
      
      تقل الحقيقة دي استقر جوه صدري. صوابعي قفشت على سيور شنطي، وعقل صوابعي وجعتني.
      
      أنا لوحدي بجد.
      
      الفكرة خبطت فيا، حاجة مفاجئة وساحقة، ولثانية واحدة يائسة، كنت عايزة أجري. ألف وأرجع، ألاقي القطر، أهرب قبل ما يفوت الأوان.
      
      بس الأوان فات خلاص.
      
      عشان أبويا مبصش وراه.
      
      عشان راعي البقر فضل ماشي.
      
      عشان مفيش مكان تاني أروحه.
      
      فأجبرت رجليا تتحرك، خطوة ورا التانية، ماشية ورا اللي اشتراني واللي باعني في اتجاه عربية مستنية في آخر الشارع الزحمة.
      
      لما وصلنا للعربية، الراجل اللي بيشع خطر ده لفلي وهو بيفتح الباب. ملامحه متتقريش، عيونه الرمادي متتقريش، وحتى معزمنيش أطلع. متكلمش. هو بس اتفرج عليا—مستني.
      
      اترددت، صوابعي بتقفش على سيور شنطي. نفسي اتحبس في زوري، غصة اتكونت مش عارفة أبلعها. معرفش المفروض أعمل إيه—أستنى أوامر، أطلب إجابة، أجري؟ بس بعدين، لمحتها—لمعة نفاد الصبر في عينيه، حادة وعدت بسرعة. رجليا اتحركت قبل ما أفكر أحسن.
      
      اتسلقت عشان أطلع العربية، كفوفي اتزحلقت على الإطار الخشب الخشن وأنا قربت أفقد توازني. المقعد كان ناشف تحتي، وقعدت مفردوة ضهري أوي، نبضي بيدق جوه ضلوعي.
      
      أنا مش تبع هنا.
      
      أبويا طلع ورايا، اتسلق بتردد أقل بكتير. اتنهد وهو بيستقر على المقعد المنجد اللي قصادي، رزمة فلوس في إيده. صوابعه قفشت عليها كأنها طوق نجاة، كأن تقل الورق ده أهم من تقل اللي هو عمله.
      
      راعي البقر اتحرك بسلاسة، قفل الباب وراه قبل ما ينط على قدام العربية كأنه عملها ألف مرة قبل كده.
      
      بإيد واحدة، أبويا مد إيده في صديريته وطلع قزازة جلد سودة، فك غطاها بصباعه قبل ما ياخد شفة بطيئة ومقصودة. عروق رقبته اتحركت وهو بيشرب، إيده التانية ماسكة رزمة ورق فلوس—خمسة آلاف دولار.
      
      نص التمن اللي قاله.
      
      التمن اللي التانيين مجرؤوش يدفعوه.
      
      "المراسم هتبقى إمتى؟" صوت أبويا وصل من الشباك الصغير اللي بينا، واطي وثابت، كأنه عارف الإجابة خلاص.
      
      قصادي، هو لحس شفايفه، ريقه بيجري على منظر الفلوس. "القسيس مستنينا في الكنيسة،" راعي البقر رد، يادوب اتكلم قبل ما اللجام يطرقع في إيديه والعربية تندفع لقدام.
      
      الكلام خبطني زي قلم على وشي ورصاصة في بطني.
      
      كنيسة.
      
      قسيس.
      
      جواز.
      
      لأ.
      
      لأ، لأ، لأ.
      
      جسمي اتصرف قبل ما عقلي يستوعب. إيديا اتمدت على باب العربية، صوابعي بتشد، بتخربش في الأوكرة وأنا بزق فيه. مش عايز يفتح بسرعة، مش عايز يخليني أخرج قبل ما الهوا في العربية يقفل عليا.
      
      هوا.
      
      أنا محتاجة هوا.
      
      المكان ضيق أوي، صغير أوي، قريب أوي—أبويا قصادي، وراجل غريب سايق، ومعلومة إني بتاخد، إني خلاص اتاخدت، ضاغطة عليا زي تقل سحق.
      
      شديت أقوى، الباب أخيراً فتح، وكنت هقع من العربية وهي ماشية، سندت على إيديا وأنا بخبط في الأرض.
      
      الخبطة لسعت، جلدي اتسلخ على تراب الطريق الناشف. قومت وقفت على رجلي وأنا بطوح، كل عصب في جسمي بيصرخ فيا أجري، أجري، أجري.
      
      الكلام مش راضي يسكت في دماغي.
      
      قسيس مستني.
      
      مراسم.
      
      جواز.
      
      ده مش حقيقي. مستحيل يكون حقيقي.
      
      الرؤية غبشت على الأطراف، رئتي بتقفش، صدري بيعلى ويوطى بسرعة أوي، مش منتظم. إيديا بتترعش على ركبي وأنا موطية لقدام، بحاول أدخل الهوا لجسمي تاني مع كل شهقة. بس الهوا مش راضي يدخل.
      
      غمضت عيني جامد.
      
      مش قادرة أتنفس.
      
      صوت جزم بتخبط على التراب بالكاد سجلته وسط رعبي، بس بعدين—إيد. دافية وثابتة، بتضغط برفق على ضهري، بتمسح بحركات دائرية بطيئة. لمسة مش خشنة، مش غصب.
      
      
      
      
      
      
      
      
      ...مجرد... هناك.
      
      أنتفض مبتعدة عنها في الحال. جسدي يتحرك قبل أن أفكر، أتعثر للخلف بينما نظري يرتفع فجأة، صدري ما زال يعلو ويهبط، ويداي مقبوضتان. وها هو ذا.
      
      راعي البقر.
      
      راعي البقر الخاص بي.
      
      هو لا يتحرك، لم يمد يده إلي مرة أخرى. هو ببساطة يراقب، عيناه الرماديتان كالعاصفة ثابتتان، لا تتزحزحان.
      
      "للداخل من أنفك،" قال، آخذاً نفساً عميقاً وحابساً إياه. انتظر. يراقب. يتوقع.
      
      ترددت، جسدي ما زال حبيس الذعر، لكن شيئاً ما في الطريقة التي يتحدث بها—الثقة الهادئة في صوته—جعلتني أستمع.
      
      استنشقت بحدة من أنفي، أحاول حبسه كما يفعل، لكن أنفاسي ارتجفت في صدري، ضلوعي تؤلمني من شدة دقات قلبي.
      
      "للخارج من فمك." زفر ببطء، شفتاه تنفرجان بما يكفي لخروج النَفَس. عيناه لم تترك عيني أبداً. "ركزي على دقات قلبك،" قال، بهدوء ولكن بحزم. "اشعري بها في صدرك. وأجبريها أن تبطئ."
      
      بلعت ريقي بصعوبة. يداي ما زالتا ترتعشان، رأسي ما زال يدور، لكني أومأت.
      
      نَفَس آخر للداخل. أبطأ هذه المرة.
      
      آخر للخارج.
      
      وببطء، بدأ الثقل يرتفع.
      
      أراقبه وأنا أتنفس، أراقبه وهو يراقبني. لم يستعجلني، لم يضغط. فقط انتظر، كما لو أن لديه كل الوقت في العالم.
      
      "خذي وقتك كما تحتاجين،" تمتم، ولا أعرف لماذا، لكني أستمع إليه.
      
      أومأت مرة أخرى، وآخر نَفَس عميق يملأ رئتي. الغثيان في معدتي هدأ، وعندما وجدت صوتي أخيراً، كان بالكاد أعلى من الهمس.
      
      "مرحباً، يا راعي البقر؟"
      
      انعقد حاجبه قليلاً عند سماع الاسم، شفتاه ارتعشتا عند الزوايا. "راعي البقر؟"
      
      "حسناً،" قلت، مخرجة آخر ما تبقى من ذعري، "أنا لا أعرف اسمك. لذا، 'راعي البقر' سيفي بالغرض حتى تشعر بأنك 'رجل نبيل' بما يكفي لتقدم نفسك."
      
      تلك الارتعاشة كادت أن تتحول إلى شيء أكثر. شبه ابتسامة، سريعة وعابرة، سريعة لدرجة أنني كدت ألا أراها.
      
      وهكذا، اختفت، متلاشية بينما يدس يديه في جيوب معطفه ويستدير عائداً نحو العربة.
      
      توقف عند المقدمة، متوقفاً بما يكفي ليقابل نظرتي مرة أخرى.
      
      "ريفن بلاكستون،" قال. "لكن 'راعي البقر' سيفي بالغرض."
      
      ريفن بلاكستون.
      
      ريفن بلاكستون.
      
      ثم سحب نفسه إلى مقعد السائق، وتحركنا مرة أخرى عندما أجبرت ساقاي على الصعود مجدداً إلى العربة.
      
      ريفن طرقع باللجام عندما أصبحت بالداخل، واندفعت الخيول للأمام، تسحبنا بعيداً عن المحطة وإلى قلب إندبندنس.
      
      العربة تهتز تحتي، تترجرج مع كل حفرة غير مستوية في الطريق الترابي، العجلات تصر احتجاجاً. أصوات المحطة—الصياح، قعقعة الأمتعة، صفارة القطار المغادر—تتلاشى خلفنا، يبتلعها همهمة البلدة المتنامية.
      
      إندبندنس حية بطريقة لم تكن عليها نيو أورلينز أبداً.
      
      الشوارع فوضى متشابكة من الحركة، أناس وعربات ينسلون بين بعضهم البعض في رقصة غير معلنة تبدو على بعد خطوة واحدة خاطئة من الفوضى. الهواء كثيف بالغبار، الذي تثيره الحركة المستمرة للحوافر وعجلات العربات، رائحة الخيول، التبغ، وشيء يُقلى على نار مكشوفة تختلط معاً.
      
      نساء بقبعات باهتة يمشين على الأرصفة الخشبية، تنانيرهن تحتك بالخشب وهن يحملن سلالاً من البضائع الجافة والقماش. رجل يقف خارج صالون حلاقة، يميل قبعته للخلف وهو يدخن غليوناً، يراقب تدفق الحركة بلا مبالاة. مطرقة حداد ترن في دقات ثابتة وموزونة، مرسلة شرارات تتطاير في الضوء الخافت. بالقرب، يركض أطفال بين الصناديق المكدسة خارج المتجر العام، أقدامهم الحافية تثير الغبار وهم يضحكون ويطاردون بعضهم البعض في الشارع.
      
      من خلال العربات المارة والفرسان على ظهور الخيل، أختلس النظر إلى مؤخرة قبعة ريفن، محاولة فهم الرجل الذي يسيطر الآن على مصيري. جسده يغطيه السواد، وقفته متيبسة، كتفاه العريضان مستقيمان بطريقة تدل على العادة، وليس التفكير—كأنه تعلم ألا يسمح لنفسه أبداً بأن يكون أي شيء سوى منغلق. لا يكشف عن أي شيء.
      
      الندوب التي تشق طريقها أسفل رقبته، مختفية تحت ياقة قميصه الأسود، لها قصتها الخاصة. قصة لا أعرف إن كنت أريد سماعها. قصة لا أعرف إن كان سيرغب يوماً في روايتها.
      
      الثقل في صدري يشتد، شيء بارد يلتف في أعماق بطني، لكني أدفعه. أجد صوتي، رغم أنه يخرج أهدأ مما قصدت.
      
      "هل ستزورني، يا أبي؟"
      
      أبي بالكاد يتفاعل. ضحك بخفوت تحت أنفاسه، يقلب نقوده مرة أخرى، يسوي الأوراق النقدية كأنها أثمن شيء حمله في حياته. لست أنا. أبداً لست أنا.
      
      "عشرة آلاف،" تمتم، وهو يعدها للمرة الثالثة. "عشرة آلاف لعينة."
      
      "يا أبي؟" صوتي يرتجف، ليست النبرة الواثقة التي قصدت استخدامها. خرجت كأنين.
      
      لا أعرف لماذا أسأل. لا أعرف لماذا أتوسل.
      
      لقد كان أباً فظيعاً عندما تجاهلني، وعندما كان ينتبه، كان أسوأ. أسوأ بكثير.
      
      رعشة تسري في عمودي الفقري، ذكرى تشق طريقها إلى السطح، ذكرى أدفنها مرة أخرى قبل أن تتمكن من التجذر.
      
      ربما أنظر إلى كل هذا بشكل خاطئ. ربما هذا ليس كابوساً على الإطلاق.
      
      ربما بيعي لغريب هو حلم متنكر. حلم إذا جعلته كذلك.
      
      تغوص الشمس أكثر، تسكب الذهب فوق أسطح المنازل، ترسم ظلالاً طويلة على الأرض. يصبح الهواء أبرد، أثقل، وأفقد نفسي في إيقاع العجلات، الخبط الثابت للحوافر، المسار البطيء المتعرج عبر الشوارع.
      
      ثم، فجأة، نتوقف.
      
      التوقف المفاجئ يرسلني مندفعاً للأمام، راحتا يدي تصطدمان بحجري بينما أحاول إمساك نفسي. باب العربة يُفتح، وريفن هناك، يقف في ضوء الشمس المتلاشي.
      
      تنتقل عيناه إلى أبي أولاً، وشيء يمر على وجهه—ومضة من الاشمئزاز، الغضب، سريعة لدرجة أنها اختفت قبل أن أتمكن من التأكد من أنها كانت موجودة أصلاً. ثم تستقر نظرته علي، وللحظة، لا أستطيع التنفس.
      
      "هل ترغبين في التوقف عند الخياطة من أجل فستان،" يسأل، صوته ثابت، عيناه الرماديتان لا يمكن قراءتهما، "أم أنك راضية بملابسك؟"
      
      ألقي نظرة على فستاني—مجعد، باهت، مغبر، تذكير بالماضي الذي أُنتزع منه. ماضٍ لا أعرف إن كان يجب أن أتمسك به أم أتركه يموت.
      
      صوته موزون، ثابت—ولكن ليس لطيفاً. لا يوجد فيه سخرية، لا رقة، مجرد سؤال بسيط، قرار عملي.
      
      راعي البقر ذو الندوب الذي اشتراني للتو يعطيني خياراً.
      
      اعتقدت أن حقي الإنساني في الاختيار قد أُلقي به من نافذة القطار من نيو أورلينز إلى سانت لويس.
      
      أهز رأسي. "لا، يا راعي البقر. سأ—"
      
      لكن ريفن كان يستدير مبتعداً بالفعل، يخطو بالفعل نحو أبواب الكنيسة الطويلة، ساقاه الطويلتان تلتهمان المسافة كما لو كان مستعجلاً لإنهاء هذا الأمر.
      
      "القسيس من هذا الطريق."
      
      أدير عيني نحو ظهره، وأنا أعلم جيداً أنه لا يهتم إن فعلت. ثم، أتبعه.
      
      الكنيسة مذهلة، غارقة في آخر درجات ألوان الشمس الدافئة المتسربة عبر الأبواب الزجاجية الملونة، تضيء الألوان الزاهية للقديسين والشهداء كنار مقدسة. الجدران مبطنة بنقوش معقدة لملائكة ونبوءات، المقاعد الخشبية مصقولة بفعل الزمن، صفوف فوق صفوف تؤدي إلى منبر رخامي فخم. خلفه، يلوح أرغن ذو أنابيب ضخم، وجوده مهيب وجميل في آن واحد.
      
      راهبات يتحركن في المكان، بعضهن يركعن أمام نقوش حجرية للإله والسيدة العذراء، أيديهن مشبوكة في صلاة، ورؤوسهن منحنية. أخريات يحملن أغطية، يرتبن الشموع، يتهامسن بعبادتهن لإله تخلى عني منذ زمن طويل.
      
      صوت جزمة ريفن يتردد صداه على الأرضية الحجرية، وأجبر نفسي على اتباعه، حتى بينما ترتجف ساقاي تحتي.
      
      أبي يتعثر خلفي، ما زال متمسكاً بالشيء الوحيد الذي كان يهمه يوماً—نقوده.
      
      عند المنبر، يظهر القسيس. أثوابه بيضاء، مطرزة بالذهب، شعره رمادي وخفيف، وعيناه البنيتان لطيفتان، ولكنهما ثقيلتان—كما لو أنه رأى الكثير من حفلات الزفاف التي ما كان يجب أن تحدث.
      
      "أهلاً بكما،" يقول، صوته هادئ. "هل أنت مستعد للبدء، يا سيد بلاكستون؟"
      
      ريفن يومئ. بحزم. بشكل نهائي.
      
      أبي يتمايل على قدميه، عيناه المحتقنتان بالدم بالكاد تسجلان اللحظة قبل أن يومئ هو الآخر، موافقاً بغباء على كل ما سيأتي.
      
      أستنشق بحدة، صدري ضيق جداً، نبضي عالٍ جداً.
      
      وبعد ذلك، أومأت.
      
      لا عودة الآن.
      
      كلمات المراسم تغمرني، لكني لا أسمعها. أنا غارقة في ذكريات أمي، في الطريقة التي كانت تحتضنني بها، كيف كانت رائحتها تشبه الورود والكتان النظيف، كيف ما كانت لتسمح أبداً بحدوث هذا لو كانت على قيد الحياة.
      
      صوت القسيس يسحبني مرة أخرى.
      
      "هل تقبلين بهذا الرجل زوجاً شرعياً لك، ليكون لك وتحافظي عليه، من هذا اليوم فصاعداً، في السراء والضراء، في الغنى والفقر، في المرض والصحة، لتحبي وتعتزي به، حتى يفرقكما الموت؟"
      
      لا أستطيع التنفس.
      
      أبي حتى لا يرفع نظره. لا يهتم.
      
      ألتقي بنظرة ريفن، ولأقصر لحظة، أرى شيئاً هناك.
      
      ندم؟ شفقة؟
      
      تلاشت بالسرعة التي ظهرت بها.
      
      "أقبل،" أهمس، صوتي بالكاد مسموع، ولكنه نهائي بطريقة ما.
      
      يلتفت القسيس إلى ريفن، تعابيره رسمية. "هل تقبل بهذه المرأة زوجة شرعية لك، لتكون لك وتحافظ عليها، من هذا اليوم فصاعداً، في السراء والضراء، في الغنى والفقر، في المرض والصحة، لتحب وتعتز بها، حتى يفرقكما الموت؟"
      
      جاء رد ريفن فورياً، بلا عاطفة.
      
      "أقبل." صوته منخفض، ثابت، ولم يكن هناك أي تردد. كانت عبارة بسيطة، لكنها تحمل ثقل الحتمية، وكأنه قد قبل هذا المصير قبل وقت طويل من أن أعرف أنه قادم.
      
      وبعد ذلك—
      
      يومئ القسيس، مغلقاً الكتاب ورافعاً يديه للمباركة. "بالسلطة المخولة لي من الكنيسة وولاية ميزوري، أعلنكما الآن زوجاً وزوجة. يمكنك تقبيل العروس."
      
      صمت.
      
      ريفن لا يتحرك. لا يلمسني.
      
      يحدق بي للحظة طويلة، ثم يستدير على كعبه ويمشي مبتعداً.
      
      وهكذا، أنا متزوجة.
      
      متزوجة، ولكن لم أُقبَّل عند المذبح.
      
      متزوجة، ولكن لم يُطلب يدي للزواج أبداً.
      
      متزوجة، ولكن لم يُقل لي 'أحبك' أبداً.
      
      في الخارج، بدأت الشمس في الغروب، وأصبح الهواء أبرد، أثقل. العربة تنتظرنا حيث تركناها، الخيول تدب بأقدامها بنفاد صبر.
      
      ريفن يساعدني على الصعود هذه المرة، لكنه لا يتكلم.
      
      هو ببساطة يصعد إلى مقعده، يمسك باللجام، وبدون كلمة، نمضي.
      
      بعيداً عن الكنيسة. بعيداً عن كل شيء.
      
      نترك أبي في المحطة، لكني أعرف—شبحُه سيطاردني أطول مما فعل وجوده.
      
      بينما تختفي البلدة خلفنا، تبتلعها التلال المظلمة والغابات الكثيفة، أدرك شيئاً واحداً.
      
      لا عودة للوراء.
      
      الطريق أمامنا طويل، متعرج، وغير مؤكد.
      
      وفي نهايته، ينتظرني في الظلال، راعي البقر الوسيم ذو الملامح الخشنة المسمى ريفن بلاكستون.
      
      اسمي نويمي هالي، وأنا سأنجو من هذا.
      
      تصحيح.
      
      اسمي نويمي بلاكستون، وأنا سأنجو من هذا.
      
      

      قصة حب توكسيك

      حب توكسيك

      بقلم,

      رومانسية

      مجانا

      اكتشفت خيانة مزدوجة من أقرب اتنين ليها، حبيبها "جيك" وصاحبتها الانتيم "جاسمين". بدل ما تنهار، رد فعلها كان غريب جدًا وشاركتهم في اللحظة دي. لكن الموضوع ده مخلصش، لأن آمبر سابت جرحها يكبر جواها. بعد سنتين، رجعت عشان تنتقم، وقررت تردلهم الصاع صاعين. القصة كلها عن إزاي الخيانة بتتحول لرغبة في انتقام بارد، ورد الدين بنفس الطريقة بالظبط.

      آمبر

      بتبدأ كواحدة مضغوطة من الشغل وحياتها، لكنها بتكشف عن جانب مظلم وجريء لما بتتصدم. بتتحول من ضحية لواحدة بتخطط ببرود عشان تاخد حقها بعد سنين.

      جيك

      حبيب آمبر (في الأول). هو اللي خانها مع صاحبتها الانتيم، وكان هو بداية المشكلة كلها.

      جاسمين

      صاحبة آمبر "الانتيم". شاركت في الخيانة الأولى، وكملت حياتها واتخطبت، ومكنتش عاملة حساب لرجعة آمبر وانتقامها.
      قصة حب توكسيك
      صورة الكاتب

      كان البيت هادئًا بشكل غريب، ولكن هذا هو الحال دائمًا يوم الجمعة. والدا فاليري كانا خارج المنزل لقضاء الليلة، كان لديهما هذه العادة بالخروج في موعد كل ليلة لتقوية رباط الزواج أو حاجة زي كده، لكن فاليري كانت تظن أنهما في الحقيقة يحاولان إنجاب طفل آخر، بس مش مهم، لم يكن الأمر يهمها قيد أنملة، كانت في سنتها الأخيرة في المدرسة الثانوية وستغادر قريبًا إلى الجامعة لذا هي نوعًا ما تفهمت يأسهما، كانا خائفين من الوحدة ولكن لو تُرِكَ الأمر لها، لكانت نصحتهما أن يجيبوا كلبًا أو أي حيوان أليف ليؤنس وحدتهما أثناء غيابها، ولكن لا يهم.
      
      بمجرد أن ذهب والدا فاليري وتأكدت تمامًا أن سيارتهما غادرت لقضاء الليلة. أحضرت طبقًا من آيس كريم الشوكولاتة والفراولة من الثلاجة وقسمت نصفًا متساويًا من كل نوع ثم أمسكت بكل ما يمكن أن تجده من مأكولات سريعة وصعدت إلى سريرها على بطنها أولاً وبدأت تأكل بنَهَم (بتلت) وهي تقرأ رواية.
      
      كانت الرواية من نوع جريء جدًا، وهو نوع أثار اهتمامها. كلما قرأت أكثر، كلما انجذبت أعمق في صفحات الكتاب الذي بدأت في قراءة هذا النوع من الكتب مدفوعة بالفضول ثم بالهوس. لم تتفاجأ عندما وجدت نفسها مبتلة وحلمتيها أصبحتا صلبتين كالحصى أثناء قراءة الكتاب.
      
      كما ترى، لم تكن فاليري شخصًا يُثار بسهولة، وإلا لما كانت لا تزال عذراء في سن الثامنة عشرة الكبير هذا. ولا، لم يكن الأمر أنها لم تجرب وتختلط بالأشخاص، فقد تبادلت القبلات مع أكثر الشباب إثارة وأكثر الفتيات إثارة ولكن تلك الشرارة مكنتش موجودة، كان الأمر في أحسن الأحوال ما يمكن أن تسميه كلام فاضي.
      
      لقد نعتوها بالكثير من الأسماء، باردة، عديمة الإحساس وكل ذلك، لكنها لم تكن مستعدة لفقدان عذريتها دون الشعور بأي شيء سوى الألم المفاجئ ولا شيء آخر بعد ذلك، ولهذا السبب كان اكتشاف أن مجرد كتاب قد أثارها أمرًا مبهجًا للغاية.
      
      كان هذا هو الجزء المفقود من حياتها الجنسية الذي كانت تبحث عنه، وقد وجدته في منتصف إحدى الصفحات. ببطء ربتت على ساقيها على السرير الكبير وسمحت لأصابعها بتتبع مدخلها الرطب. وبينما كانت هناك، ركزت اليد الأخرى على قرص وعجن نهديها متوسطي الحجم، وشعرها الأحمر الداكن أُلقيَ للخلف في متعة بينما وصلت ببطء إلى ذروتها وهي ترتعش حتى هدأت المشاعر، وهي ترتجف وضعت أصابعها بين شفتيها ولحست عصارتها.
      
      هنا وفي تلك اللحظة قررت أنها عايزة أكتر. ليالي وليالي من القراءة عن نمط الحياة هذا قد أثرت عليها، أرادت شيئًا أكثر من لمس نفسها، أمسكت بقميص وشورت وارتدتهما مع سترة داكنة بغطاء رأس وشرعت في الذهاب إلى متجر قريب حيث طلبت علبة حفاضات للكبار، دفعت نقدًا لتجنب كشفها، فوالداها كانا يراقبان بطاقتها الائتمانية بجنون (عنيهم على الفيزا بتاعتها).
      
      لحسن الحظ، كان أمين الصندوق منغمسًا في نفسه جدًا لدرجة أنه لم يلاحظ حقًا ما اشترته. قام بتغليف العلبة وسلمها إلى فاليري ثم استدار ليلتقط هاتفه ويواصل الدردشة. ممتنة لعدم لفت الانتباه، سارت بخطى سريعة عائدة إلى منزل عائلتها وهي تتنفس بعمق لتهدئة قلبها الذي كان بيدق جامد، وصلت إلى المنزل وبدأت في فك الغلاف.
      
      استغرقت العودة إلى شقتها ساعة كاملة، ببطء خلت موبايلها صامت لتجنب أي مكالمة، ليس الأمر أنها كانت تتوقع أي شخص، فوالداها كانا في موعدهما وجعلاها قاعدة ألا يتصلا بها أو يزعجاها، وهي كانت هادئة وخجولة أكثر من اللازم ليكون لديها صديقة أو حتى صديق، ورومان، صديقها المقرب الجذاب، كان في موعد وغالبًا مع واحدة، لذا فإن إمكانية قدومه لرؤيتها كانت صفرًا مطلقًا.
      
      كانت تشعر بدوار من الإثارة وهي تمزق ببطء غلاف الحفاض وتخلع شورتها وسروالها الداخلي وتلصقه عليها. أعجبت بنفسها في مرآتها الكاملة، فمؤخرتها الممتلئة أصلاً بدت أكثر امتلاءً. خلعت ملابسها بالكامل وبدأت المشي إلى غرفة الأطفال القديمة حيث لا يزال والداها يحتفظان ببعض ألعاب طفولتها القديمة.
      
      كان والداها أغنياء ودلعوها، طفلتهما الوحيدة، بشكل كامل وشامل. كان لا يزال لديها علب (سكاتات) لهايات غير مفتوحة لم يستخدمها والداها عندما كانت رضيعة. فتحت واحدة، وأمسكت بواحدة وردية وعادت ببطء إلى غرفتها وهي تشعر بأنها جريئة وغريبة الأطوار.
      
      صعدت إلى سريرها وأنهت الأكل على كل تلك المأكولات السريعة، ثم انتظرت، لم تستطع الانتظار لاستخدام حفاضها لأول مرة على الإطلاق، مر الوقت ببطء ومثانتها لم تكن عايزة تفضى بعد، فذهبت لتأخذ زجاجة ماء، لكنها شعرت بوعي ذاتي كبير لدرجة أنها مش قادرة تسيب نفسها، لقد تدربت على استخدام الحمام طوال حياتها وفقدان هذا التدريب لن يكون سهلاً. محبطة، فعلت أفضل شيء تالي، سارت إلى خزانة الأدوية وأمسكت بعلبة مُليّن.
      
      ثم خطرت لها فكرة أخرى، بالعودة إلى غرفة أطفالها القديمة، أمسكت بزجاجة رضاعة (ببرونة) وغسلتها كويس وملأتها بالحليب من الثلاجة ثم سخنتها قليلاً في الميكروويف ثم فتحت علبة المليّن بداخلها ثم أخذتها إلى غرفة نومها واستلقت على ظهرها وبدأت ترضع بلطف من الزجاجة، مش مستعجلة خالص.
      
      لا بد أنها غفت شوية، وعندما استيقظت تحولت بكسل من الزجاجة إلى اللهاية (السكاتة)، بدا الأمر كله وكأنه حدث في لحظة. التقطت هاتفها ورأت عدة مكالمات فائتة من رومان وست رسائل، آخرها كان يسألها إذا كانت في المنزل وحدها وأنه في الطريق (أنا جاي). في حالة من الذعر، قفزت من السرير لتذهب لإزالة حفاضها أو على الأقل ارتداء شيء فوقه عندما حدث ذلك.
      
      انزلقت نافذتها وفُتحت ودخل منها رومان، ليمسك بها وهي منحنية، ومؤخرتها المغطاة بالحفاض مرفوعة ليراها العالم. ملابسها الملقاة بعشوائية تناثرت على الأرض مع علبة حفاضات، لكن ذلك لم يكن الأسوأ. استدارت بسرعة لتواجهه واللهاية (السكاتة) في فمها، ونهديها يتأرجحان، ومما زاد الطين بلة أنها خسرت المعركة، وبينما حدق صديقها المقرب منذ الأزل في عينيها وهي في عينيه، أحدهما يعكس الصدمة والآخر مليء بالذعر والخوف، بدا الزمن وكأنه توقف.
      
      انحرف نظره إلى أسفل بينما هي عملتها على نفسها وتبولت في حفاضها، وعيناها لم تغادرا عينيه ولو لمرة واحدة. كان الأمر مهينًا، ومحرجًا للغاية، ولكن الغريب في الأمر أنه كان مثيرًا، عرفت أنها ستكون مبتلة. استدارت وركضت إلى حمامها وأغلقت الباب بعنف.
      
      دعونا نعود إلى البداية حيث بدأ كل شيء.........
      
      
      ------------------
      
      
      هتعملي إيه لو دخلتي لقيتي صاحبتك الانتيم بتمارس الجنس مع حبيبك؟ هتصرخي؟ تزعقي؟ تمشي؟ هتسيبيه؟ تسميهم؟ تحرقيهم؟ تعيطي؟ تضربيهم بالنار؟ تعمليلهم بلوك؟ ترمي عليهم حاجات ولا تنضمي ليهم؟
      
      أنا جيت عشان أتكلم وألعب معاكم يا جماعة بالفصل ده، أنا هنزل فصل جديد من القصة دي كل يوم حد. أنا بكتب الفصل الجاي والموضوع بتاعه هو السؤال اللي فوق ده، مستنية ردودكم، حابة أسمعها ومتنسوش تصوتوا، شكرًا على القراءة، أوه، وإحنا رقم واحد في (مُهانة) شكرًا جزيلًا ليكم على ده.
      ❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣
      
      بداية القصة
      
      وجهة نظر آمبر
      
      الشغل مكنش مرهق أكتر من كده قبل كدة، ما بين ضغط الأوردرات اللي ملهاش آخر، والرد على الزباين الرخمين، والخبز، كان الموضوع ممل بشكل لا يطاق، وأنا وجيك عندنا مشاكل جدية في علاقتنا.
      
      أنا بحب جيك بجد، متفهمونيش غلط، بس الموضوع بيبقى ضاغط أوي ما بين الدراسة، والمحافظة على شغلي، وإننا نلاقي وقت لينا. مش هكدب، مش إني مش بحس بالذنب وأنا بكنسله مرة ورا مرة، بس أنا حاسة إن علاقتنا بتنطفي.
      
      الشمس سطعت على شعري الأسود الحريري اللي فيه خصل زرقاء واللي كان معدي وسطي، وده خلاه يلزق في وشي. قميصي الحريري لزق في ضهري من الحر الشديد. كنت متضايقة جدًا وكل اللي كنت عايزاه إني أروح البيت. أقف تحت الدش لوقت طويل، وأتكور في سريري وأنام.
      
      بعد يوم طويل وممل في الشغل، وصلت البيت أخيرًا، حطيت المفتاح في القفل. البيت كان برد بشكل جميل، والموسيقى المألوفة كانت طالعة من الاستريو، وشي اتكرمش في عبوس، أنا حذرت جيك كذا مرة من عادته الزفت دي إنه مش بيقفل أجهزته قبل ما ينام.
      
      صوت كعبي كان بيعمل صوت وأنا طالعة السلم، بس الموسيقى العالية تحت كانت مغطية عليه، في العادي كنت بوطي الصوت أو أقفله خالص بس لسبب ما معملتش كده.
      
      من غير ما أخبط. فتحت الباب على مصراعيه وعيني أول حاجة جت على صاحبتي الانتيم وهي بتأنوح وحبيبي بيلحسلها.
      
      أنا اتصدمت، وحسيت بالمرارة بس في نفس الوقت اتشدّيت للموضوع بشكل لا يصدق، مكنتش أعرف إن الواحد ممكن يحس بشعورين عكس بعض كده في نفس الوقت. المنظر اللي قدامي كان مثير. أنا دايمًا كنت بتخيل إني أضاجع بنت، أوه، متطلقوش أحكام. في اللحظة دي، جاسمين رفعت عينيها ولقتني وعينينا اتقابلت وفضلت معلقة.
      
      بدت مصدومة للحظة وكل حاجة حصلت في ثانية. "آمبر هنا، هي همست بصوت مرعوب لحبيبي".
      
      هو بص فوق ووشه أحمر، والعرق ملزق شعره الأشقر. بدأ يعتذر، بس الكلام نشف على شفايفه بسبب الابتسامة الخبيثة اللي على شفايفي وأنا بتفرج عليهم بعيون خضرا كسلانة. كملوا يلا. أنا قولت وأنا بقلع فستاني ببطء، وفضلت بس بملابسي الداخلية وانضميت ليهم على السرير. وبوست حبيبي بوسة عميقة على شفايفه.
      
      كان طعمه حلو زي الزبادي اليوناني، غالبًا بسبب إنه كان بياكل جاسمين، مع طعمه المميز بتاعه. لفيت لجاسمين وبوستها هي كمان. وحسيت بإحساس غريب بالابتلال والإثارة.
      
      بصوت أجش، بصيت لحبيبي وقولتله يضاجعها وأنا بتفرج. هما لسه كانوا زي اللي دايخين ومذهولين من قلة غضبي واستيائي.
      
      الاتنين بدأوا ينفذوا، الحقيقة إني مريت بيوم صعب ومكنش عندي وقت أكون متقلبة، والحقيقة تتقال، هما الاتنين كانوا أصحابي، الفرق الوحيد إني كنت بضاجع واحد ومش بضاجع التانية، بس دلوقتي إحنا على وشك نكون أصحاب بمنافع.
      
      زحلقت إيدي بين فخادي المبلولين ولعبت مع نفسي وأنا بتفرج عليهم بعيون نص مفتوحة وهما الاتنين بيأنوا. بعدين قلعت ملابسي الداخلية تمامًا ووقفت قدام صاحبتي الانتيم، بصة واحدة مني، ودفنت بقها في منطقتي الحساسة بتمص وتلحس، ضرباتها كانت قوية والأصوات بدأت تطلع مني وقتها، صوابعي لقت نهودي وأنا بلعب بيهم وقريب أوي آهاتنا ملت الهوا زي صوت متخطط له، وممتزجة ببعض بشكل فكاهي. مع دفعة واحدة سريعة من لسانها على لحمي المبلول، وصلت لواحدة من أقوى هزات الجماع في حياتي.
      
      الرعشة هزتني وأنا انهرت على الكرسي، في نفس اللحظة اللي حبيبي وصاحبتي الانتيم خلصوا فيها، إحنا التلاتة رقدنا على السرير بننهج من التعب، كنت على وشك أغرق في نوم متقطع لما قرروا يبدأوا يتكلموا تاني بيحاولوا يشرحوا، رفعت إيدي بضعف وقولتلهم إني عايزة أتصرف كأن ده محصلش، وهما وافقوا بسهولة.
      
      حاولوا يتكلموا معايا، بس أنا مكنتش في المود وكنت محتاجة أنام وبس، وببطء، غرقت في النوم ومعرفش هما مشيوا إمتى. طبعًا جيك فضل حبيبي وجاسمين صاحبتي الانتيم وأنا اتصرفت كأن كل حاجة تمام. كان فيه جزء مجنون مني مش عايز يسيب الموضوع ده.
      
      ❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣
      تسريع زمني سنتين وتلات شهور بعد كده.....
      ❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣❣
      
      أنا لسه متخرجة قريب من الجامعة وجالي شغل كسكرتيرة وزي ما القدر عايز، مديري مكنش حد غير خطيب جاسمين. عشان أكون صريحة، أنا مخطتش لده ولا كنت عايزة انتقم ولا أي حاجة، بس بما إن كل حاجة جت مع بعضها بالشكل ده، أنا خليت ميعادي سري عن صاحبتي الانتيم وحبيبي وبدأت أشتغل على إن مديري يحبني. قبل وقت طويل، بقينا عشاق.
      
      يوم السبت المشهود ده، أنا نظمت مناسبة صغيرة عشان أفاجئ الكل. وظبطت التوقيت بالظبط، اللحظة اللي حبيبي وصاحبتي الانتيم كانوا داخلين فيها كانت بالظبط اللحظة اللي خلصت فيها مص لمديري، وهو كان بيرد الجميل.
      
      راسي كانت مرجعة لورا، وشفايفي مفتوحة بمتعة وقميصي مفتوح بعشوائية. صوت آهاتي علي أكتر بالظبط لما هما الاتنين فتحوا الباب. الابتسامة الخبيثة كبرت على شفايفي والترقب لكل ده وصلني لأقوى هزة جماع حسيت بيها في حياتي.
      
      إحنا الاتنين لفينا نبص على الضيوف اللي مش مرغوب فيهم وشوفت وش مديري بقى مذهول لما لمح خطيبته. جاسمين كان عندها الجرأة إنها تحاول تصرخ فيا، بس أنا بكل هدوء سكتها، كلامي صدمها تمامًا.
      
      "إحنا صحاب الانتيم فاكرة، اللي بيتشاركوا كل حاجة. المفروض تكوني مبسوطة أوي إنك تشاركيني خطيبك، بعد كل حاجة أنا شاركتك حبيبي عن طيب خاطر." مع الكلمات دي، طبعت بوسة على شفايف مديري المصدوم، قفلت زراير فستاني ومشيت وقلبي بيدق جامد في صدري بس لأول مرة، كنت قادرة أتنفس بجد!
      
      عشر أصوات للفصل الجاي، أنتم تقدروا تعملوها، أنا واثقة فيكم يا جماعة.
      
      

      روايه المنطقة 51 السرية

      المنطقة 51 السرية

      بقلم,

      خيال علمى

      مجانا

      "المنطقة 51" السرية، وقت عاصفة رملية شديدة. الكابتن "هنري" الشكاك وصاحبه المتحمس "رون" بيشتغلوا على "مشروع التجلي" لتشغيل بوابة غامضة. البوابة بتفتح فعلاً على عالم تاني خالص، مليان خضرة وآثار غريبة. بيبعتوا روبوت استكشاف، وفجأة بيلاقوا نفسهم وش لوش قدام فرسان لابسين دروع وسحرة حقيقيين. التواصل بيبدأ بلغة غريبة جداً: لغة الأرقام والرياضيات بين السفير الأمريكي وكبير السحرة.

      الكابتن هنري

      راجل عملي وعسكري في قوة الفضاء، شكاك شوية ومش بيصدق حاجة بسهولة، بس قلبه جامد ومستعد لأي حاجة.

      الملازم رون

      صاحب هنري الانتيم. ضخم وجدع، وهو عكس هنري تماماً، متحمس جداً ومؤمن بالمغامرة ومستني اللحظة دي بفارغ الصبر.

      الدكتورة أندروميدا

      مديرة المشروع. عالمة ذكية جداً ومتحمسة لدرجة كبيرة، هي اللي مصممة تشغل البوابة ومؤمنة بالنجاح.
      روايه المنطقة 51 السرية
      صورة الكاتب

      بحيرة جروم، نيفادا
      المنطقة 51
      
      3 نوفمبر 2024
      
      كانت العاصفة الرملية مصدر إزعاج، لا شك في ذلك. تذمر الكابتن هنري دوناجر وهو يشق طريقه بصعوبة نحو الحظيرة، والرياح تبذل قصارى جهدها لتخطف قبعته من فوق رأسه. لسعت الرمال عينيه وخدشت جلده، مما جعل رؤية طريقه أمراً صعباً للغاية. العزاء الوحيد هو أنه لم يكن وحيداً في هذه المعاناة – فكل وغد تعيس في القاعدة كان يصارع العوامل الجوية، ويسرع لتأمين المعدات وإغلاق الأبواب قبل أن تتمكن العاصفة من إحداث أي ضرر حقيقي.
      
      حتى وسط هذه الفوضى، كان أحد أركان القاعدة لا يزال نشطاً كعادته، غير مبالٍ بالعاصفة الرملية. حدق هنري عبر الضباب، ليميز شكل الحظيرة التي تضم "مشروع التجلي". لقد كان هناك مليون مرة، لكن اليوم بدا مختلفاً. يبدو أن الطقس العاصف لم يكن كافياً لإقناع الدكتورة لومبارد بالتأجيل. فمهما كان ما خططت له، فهو لا يحتمل الانتظار.
      
      جذب انتباهه صوت طقطقة الرمال، فاستدار ليرى الملازم رون أوينز يتقدم نحوه بخطى ثقيلة، وعلى وجهه ابتسامة بدت وكأنها تتحدى العاصفة الهائجة. كان رون جبلاً من رجل، شخصية مهيبة كان بإمكان براعته البدنية أن تضمن له مكاناً مريحاً في أي فريق بدوري كرة القدم الأمريكية. لقد كان مساعده منذ تخرجهما من الأكاديمية قبل بضع سنوات. لماذا استمر في "قوة الفضاء" كان لغزاً محيراً، وكان منطقه أكثر حيرة. كلما سُئل عن قراره، كانت إجابته ثابتة: "المغامرة".
      
      "هنري! إيه الأخبار؟ متحمس؟" نادى رون، وصوته الجهوري يعلو فوق عواء الرياح.
      
      صافحه هنري. "متحمس؟ الشيء الوحيد الذي أنا متحمس له هو الابتعاد عن هذه الرمال. خشنة، ومزعجة، ومقرفة، وكل هذا."
      
      "لأ، إيه يا عم،" قال رون، وهو يقود هنري متجاوزاً أبواب الحظيرة التي كانت تُغلق، "النهاردة هو اليوم الموعود، أنا قلبي حاسس!"
      
      شخر هنري وهز رأسه. "ده اللي إنت قلته الأربعتاشر مرة اللي فاتت يا مان. بدأت أعتقد إن عضمك ده محتاج يفوق للواقع."
      
      ضحك رون، ووضع ذراعاً حول كتفي هنري. "فوق كده يا عم. ثق فيا، المرة دي مختلفة. بس استنى وشوف."
      
      لم يكن هنري متأكداً تماماً، لكن كان عليه أن يعترف بأن المنشأة تبدو مختلفة. بدا الناس أكثر توتراً، أكثر تركيزاً – ليس وكأنهم يأملون في حدوث شيء، ولكن وكأنهم يعرفون أن شيئاً ما على وشك الحدوث. كان قد سمع همسات في قاعة الطعام، ومقتطفات من محادثات تلمح إلى تحقيق اختراق كبير. لكنه تعلم منذ زمن طويل ألا يثق كثيراً في الشائعات.
      
      "مش هاصدق غير لما أشوف بعيني،" قالها، وهو يبعد ذراع رون. "خلينا ندخل جوه بس."
      
      شق الاثنان طريقهما معاً إلى قلب المنشأة، مروراً بسلسلة من نقاط التفتيش الأمنية والأبواب المغلقة. كلما تعمقا أكثر، تلاشت فوضى صحراء نيفادا، ليحل محلها همهمة الآلات وأحاديث الأصوات المتحمسة. وفي النهاية، وصلا إلى قلب كل شيء: البوابة.
      
      كانت البوابة، وهي نصف دائرة ضخمة، تستقر بشكل عمودي على منصة خرسانية، وتمتد على الأقل لنصف طول الحظيرة، وتتميز بقطر كبير بما يكفي لاستيعاب طائرة بوينج 747 بسهولة. حواجز شفافة سميكة أحاطت بالبوابة إلى جانب كاميرات وأجهزة استشعار وطبقات من الدفاعات. رموز غامضة – أطلق عليها الباحثون اسم "الرونية" – انتشرت على محيط الحلقة. أما ماذا تعني، فلم يكن لدى أحد أي فكرة.
      
      بدت وكأنها شيء خرج مباشرة من فيلم خيال علمي، بوابة إلى عالم آخر تنتظر فقط أن تُفتح. مجرد وجود هذا الهيكل الغامض أشعل بداخله إحساساً بالترقب المثير – لمحة من "المغامرة" التي كثيراً ما تحدث عنها رون. ربما كان على حق. ربما اليوم هو اليوم الذي سينجحون فيه أخيراً.
      
      "مذهلة، مش كده؟" قال رون، وهو يقف بجانبه. "البتاع ده ممكن جداً يكون أعظم اكتشاف في تاريخ البشرية، وفوق كل ده، إحنا على وشك نكون أول ناس تشوفه بعنيها."
      
      "شفتها عشرات المرات، ولسه بتبهرني،" تنهد هنري. راقب الرجال والنساء في بدلات واقية وهم ينصبون أجهزة الكمبيوتر وغيرها من الأدوات بجوار صندوق فضي كبير يعكس التصميم الغامض للحلقة.
      
      استقرت عينا رون على الأشخاص الذين يتحركون حوله. "شكلهم بيستعدوا يقفلوا البوابة تحسباً لأي طارئ،" قالها، مشيراً إلى مجموعة من الأفراد يرتدون معاطف المختبر متجمعين خلف بعض لوحات التحكم بالقرب من البوابة نفسها.
      
      "ماقدرش ألومهم،" فكر هنري بصوت عالٍ، بينما تتبع نظره الإجراءات السلامة التي لا تعد ولا تحصى المحيطة بالبوابة. "آخر حاجة إحنا عايزينها هي وباء فضائي على الأرض."
      
      كانت ضحكة رون صادقة، لكن عينيه ظلتا مثبتتين على البوابة. "أو رومان متعطشين للدماء."
      
      التفت هنري نحو رون، وأشاح بنظره عن الهيكل الفضائي للحظة. خفض رأسه ورفع حاجبه. "بتتكلم جد، رومان؟ ممكن يكون فيه فضائيين متطفلين متنكرين في هيئة آلهة، أو رجالة رماديين طوال، أو حتى تنانين وحاجات تانية، وأول حاجة تيجي في بالك هي الإمبراطورية الرومانية؟ إنت كنت بتحلم بإيه نوع مغامرة لما قدمت في قوة الفضاء؟"
      
      "بص يا كابتن، مش فكرتي، تمام؟ بس كان فيه أنمي معين –،" توقف للحظة لينظف حلقه، "أحم، كارتون ياباني، فيه رومان خياليين بيخرجوا من بوابة، بس عشان ياخدوا علقة بالبنادق الحديثة. مجرد إشارة مرجعية."
      
      "ماشي، طالما مفيهوش أي من تجمعات البنات المبتذلة بتاعة مهووسي الأنمي والبنات المراهقات اللي عندهم 500 سنة، يبقى مش هاحكم على ذوقك."
      
      نظر رون إلى الجانب، في إيماءة طفيفة مرت دون أن يلاحظها هنري. "عموماً، العلماء بيقولوا إن القرايات فيها طاقة أكتر من الأول، وحتى قدروا يقنعوا الجنرال هاردينج ييجي ويبص بنفسه."
      
      عادت شكوك هنري مع نصف ابتسامة. "بجد والله؟"
      
      رفع رون يديه، "بص، أنا كمان كان عندي شكوك، بس أعتقد إني برضه كان عندي إيمان أكتر. وبعدين، لو الدكتورة لامار شايفة إن فيه حاجة هتحصل بجد، يبقى غالباً هتحصل."
      
      "أيوة يا مان،" تنهد هنري، مستسلماً. "أعتقد إن عندك حق في دي." انجرفت عيناه نحو امرأة شقراء طويلة ترتدي معطفاً أبيض، تساعد الباحثين الآخرين. بعد أن أشارت إلى شاشة، توقفت ونظرت إلى الحلقة، لتلتقي بنظرات هنري الذي كان يراقبها من فوق السياج. لوح لها هنري وابتسم، وشعر بالرضا عندما ردت له الإيماءة الودودة قبل أن تعود إلى عملها.
      
      نخزه رون بمزاح. "عينك على الدكتورة لامار، مش كده؟"
      
      "خلّي بالك من كلامك،" رد عليه، رغم أن ابتسامته كذبت انزعاجه المصطنع. "دي كبيرة العلماء هنا، بعد المديرة لومبارد نفسها. كويس يبقى ليك أصحاب في أماكن ذكية."
      
      اشتد الهواء في الحظيرة بينما أُغلقت الحواجز الشفافة حول البوابة، حابسة إياها في غرفة احتواء محصنة. غادر آخر الفنيين المنطقة، ولم يتبق سوى همهمة الآلات ومجموعة من العلماء المتوترين.
      
      لم يستطع التوقف عن التفكير فيما قد يكون منتظراً على الجانب الآخر، إذا تمكنوا حقاً من تنشيطها. كومة من الصخور والغبار؟ رجال خضر صغار؟ اللعنة، على حد علمه، يمكن أن يفتحوا باباً على حضارة كاملة. عدم المعرفة كان سيصيبه بالجنون، ولم يخفف من حدته سوى التفكير العملي.
      
      "في أوقات زي دي، كنت أتمنى لو نعرف أكتر عن اللي بنوا الحاجة دي،" اعترف رون، وانخفض صوته إلى نبرة تأملية. "كانوا عاملين إزاي؟ ليه سابوها؟"
      
      هز هنري رأسه، وعيناه مثبتتان على البوابة المحتواة الآن والدفاعات الآلية حولها. "يمكن نكتشف قريب. اللعنة، إنت خليتني أتحمس للحدود النهائية والمضي قدماً بجرأة."
      
      ابتسم رون. "شكلك قعدت مع العباقرة كتير يا مان. بدأت تتكلم زي بتوع ستار تريك."
      
      "ماتقللش من الكلاسيكيات،" رد هنري بابتسامة ساخرة. "وبعدين، أكون من بتوع ستار تريك أحسن ما أكون مهووس بالأنمي في أي يوم."
      
      قطع محادثتهما صوت عبر الاتصال الداخلي. "على جميع الأفراد، التوجه إلى مواقعكم. سيبدأ تفعيل البوابة خلال ساعة واحدة."
      
      ألقى رون نظرة على هنري، ثم على غرفة التحكم فوقهما. تبعه هنري بنظره ولاحظ شخصية تظهر كظل مقابل الضوء الحاد الذي يحيط بزجاج غرفة التحكم. وقفة صارمة، ويدان مشبوكتان خلف ظهره – كان بلا شك الجنرال ألكسندر هاردينج. وبجواره، شخصية نحيلة تراقب الاستعدادات بتعبير يكاد يكون مبتهجاً – الدكتورة أندروميدا لومبارد، مديرة مشروع التجلي.
      
      "شكل المديرة متحمسة هي كمان،" لاحظ رون.
      
      شعر هنري أن شكوكه تتلاشى قليلاً. "يمكن تكون متحمسة، بس أنا مش هاصدق غير لما أشوف بعيني. يلا نروح مواقعنا. قرب وقت العرض."
      
      ––
      
      حدق الجنرال هاردينج من نافذة غرفة التحكم، وعيناه تضيقان على مجموعة المعدات التقنية والأفراد المتحركين. بطريقة ما، تمكن تفاؤل الدكتورة لومبارد من الوصول إليه. اللعنة، كلماتها أقنعت حتى مجلس الوزراء والرئيس. من أجلها ومن أجل الثقة في المشروع، تمنى أن تكون على حق.
      
      انضمت إليه الدكتورة لومبارد، والجهاز اللوحي في يديها يعرض رسماً بيانياً لبصمات الطاقة. "سيدي الجنرال، نمط طاقة البوابة قد تغير،" قالت، وصوتها يرتجف من الإثارة التي بالكاد تسيطر عليها. "تذبذبات بترددات لم تُسجل من قبل. انظر إلى هذا الشكل الموجي – إنه يشير إلى رنين مع مصدر خارجي!"
      
      تحول تركيز هاردينج إلى الشاشة، وقطب جبينه أمام الرقصة غير المفهومة للقمم والقيعان. "إذن، لقد أنشأنا أخيراً اتصالاً ثنائي الاتجاه؟"
      
      أومأت لومبارد برأسها، وعيناها تلمعان بحماس نادراً ما رآه هاردينج من قبل. كانت نظرة شخص يؤمن حقاً بأنه على وشك تحقيق شيء عظيم. "نعم. المسبار (إم آر دي-سبعة) في موقعه ومعه مجموعة من أجهزة الاستشعار للتحليل البيئي. نحن مستعدون."
      
      حسناً، سيتطلب الأمر أكثر من الإثارة لإقناعه. "هذا تأكيد خطير يا مديرة. أصحاب النفوذ لن يكونوا سعداء بإنذار كاذب آخر."
      
      نظرت في عينيه مباشرة. "أنا متأكدة. لقد راجعنا البيانات مراراً وتكراراً. هذا ليس خللاً. البوابة تستجيب لشيء ملموس."
      
      درسها للحظة قبل أن يومئ برأسه. "حسناً. آمل أن تكوني على حق. ولكن... عند أول بادرة لشيء غير طبيعي، أريد إغلاق البوابة."
      
      "مفهوم،" ردت، وتعبيرها صارم.
      
      نظرا إلى الحظيرة مرة أخرى. كانت الاستعدادات واضحة في كل زاوية: فنيون يتأكدون مرة أخرى من أجهزة طائرة الاستطلاع بدون طيار (إم آر دي-سبعة)، وجنود في أماكنهم حول المحيط الآمن، وعلماء متجمعون حول الشاشات.
      
      كسر صوت هاردينج الصمت. "دعونا ننتقل إلى غرفة الإيجاز."
      
      تبعته الدكتورة لومبارد، وهي تنظر من فوق كتفها إلى الاستعدادات في الأسفل. "هل كل شيء جاهز؟" سألت، ونبرتها توحي بأنها تشير إلى أكثر من مجرد الإيجاز.
      
      "كل شيء في مكانه،" أجاب هاردينج، وهو يصل إلى أبواب غرفة الإيجاز. أخذ نفساً عميقاً ليعد نفسه لما هو قادم. بنظرة أخيرة على لومبارد، دفع الأبواب وخطا إلى غرفة مليئة بكبار المسؤولين العسكريين والمدنيين.
      
      الرجال والنساء الحاضرون الذين انضموا عبر عدة اتصالات فيديو كانوا يتألفون من نخبة الأمة، باستثناء الرئيس ونائبه: وزير الخارجية طومسون، ووزير الدفاع مورجان، وضباط آخرون رفيعو المستوى، وعلماء بارزون في الفيزياء النظرية والفيزياء الفلكية، وضباط اتصال حكوميون.
      
      أخذ الجنرال هاردينج مكانه على رأس الطاولة، مانحاً الجميع لحظة للاستقرار. مسحت عيناه الغرفة، وتعرف على قلة ممن كانوا في مشروع التجلي منذ اليوم الأول – السفير جون بيري، الممثل المعين للاتصال الأول، والدكتور أوليفر فريمان، المعروف بعمله على الظواهر بين النجوم.
      
      "كما تعلمون جميعاً،" بدأ هاردينج، "نحن في منعطف حاسم مع مشروع التجلي. اليوم، نحن على الأرجح نخطو نحو شيء جديد تماماً."
      
      بجواره، غيرت لومبارد وقفتها وأشارت إلى عرض تقديمي للرسوم البيانية. "لقد أجرينا عمليات محاكاة، وحللنا كل سيناريو ممكن، لكن الواقع قد يكون مختلفاً تماماً. إنها عتبة لم نعبرها من قبل."
      
      نق ضابط اتصال، أحد البيروقراطيين الكثر الذين كان على هاردينج التعامل معهم يومياً، بقلمه على دفتر ملاحظاته. "سيدي الجنرال، قد يكون هذا أعظم إنجاز للبشرية أو أسوأ كوارثها. يجب أن تكون إجراءات السلامة منيعة."
      
      "أتفق معك،" طمأنه هاردينج، ووضع مرفقيه على الطاولة. "لقد تم تنفيذ بروتوكول السلامة متعدد المراحل، وعربة الاستطلاع – مستكشف واحد – مجهزة بأحدث تقنيات الاستشعار، بما في ذلك كشف المخاطر البيولوجية."
      
      التقطت لومبارد جهاز تحكم عن بعد وتصفحت بعض الوسائل البصرية الإضافية. "ليست فقط المخاطر البيولوجية. لقد استعددنا للمخاطر الجوية، والإشعاعية، وغيرها من المخاطر البيئية."
      
      انحنى وزير الخارجية طومسون إلى الأمام، وملأت صورته الشاشة، "كيف تسير استعدادات الاتصال الأول؟"
      
      أجاب السفير بيري بتعبير واثق، "نحن مستعدون، سيدي الوزير. خبراء اللغويات والثقافة جميعهم في وضع الاستعداد، ولدينا عدة استراتيجيات اتصال تعتمد على الموقف."
      
      "حسناً إذن،" قال طومسون أخيراً، "دعونا الآن ننتقل لمناقشة بروتوكولات الاتصال الأول والنتائج المحتملة." وبينما كان المشاركون في الاجتماع يجهزون وثائقهم، ويقلبون الأوراق ويتصفحون أجهزتهم اللوحية، تابع طومسون، "لقد مر وقت طويل منذ أن راجعنا هذا، لذا دعونا نراجعه مرة أخرى. يا مديرة، ربما يمكنك البدء بموجز لخطة الاتصال؟"
      
      
      
      
      
      
      انتقلت لومبارد إلى القسم المخصص في عرضها التقديمي، والذي يعرض مخططاً بيانياً. "بالتأكيد. 'المستكشف واحد' سيقوم مبدئياً بجمع البيانات على الجانب الآخر. إذا تم اكتشاف حياة ذكية، فإن عربة الاستطلاع مزودة بمعدات لالتقاط الإشارات الصوتية والمرئية. سنبدأ بنهج غير لفظي، نراقب ونحلل أي إشارات أو أنماط أو سلوكيات."
      
      أكمل بيري الحديث: "إذا تأكدنا من وجود نظام تواصل معقد، سنبدأ بمحاولات بطيئة ومضبوطة للتفاعل. أشياء بسيطة أولاً – رموز، أصوات، ومفاهيم رياضية أساسية."
      
      قطب ضابط الاتصال حاجبيه، وأخذ قلمه ينقر بشكل أسرع. "وماذا لو تحولت الأمور إلى عدائية؟"
      
      جاء رد هاردينج فورياً وحازماً: "سنغلقها. فوراً. إذا وصل الأمر للصدام، سيضطرون لاختراق فراغ مطلق، وحواجز صلبة، ودفاعات آلية، وقوة نيران تكافئ سرية كاملة وكلها موجهة نحو البوابة."
      
      ضغط ضابط الاتصال أكثر: "وجميع الأفراد على دراية تامة بالبروتوكولات اللازمة؟"
      
      بدا الرجل قلقاً بشكل مبالغ فيه بشأن إجراءاتنا الدفاعية، لكنه لم يستطع لومه. "تماماً،" أكد هاردينج. "كل فرد في هذا المشروع يعرف دوره والخطوات التي يجب اتخاذها في كل مرحلة."
      
      وزير الدفاع مورجان، الذي ظل صامتاً حتى الآن، تحدث أخيراً. "يبدو أن لدينا خطتنا. سفير بيري، جنرال هاردينج، مديرة لومبارد، نيابة عن الرئيس كينر، نحن نثق بكم لقيادة هذه المهمة الحساسة بحكمة وضبط نفس. أنتم تحملون مفاتيح ليس فقط لتغيير مصير هذا البلد ولكن مصير البشرية أيضاً. آمل أن أراكم تصنعون التاريخ، وتجعلوننا فخورين. حظاً سعيداً وليبارككم الرب."
      
      ––
      
      غير هنري وقفته، وتكيف نسيج بدلته البيئية معه. ألقى نظرة على بندقيته طراز "ميم-سبعة" في يديه. بدا وزنها وكأنه زاد قليلاً، كما لو كانت مثقلة بخطورة المهمة. شكوكه السابقة، التي كانت منتشرة كالإشعاع في الخلفية، تلاشت إلى حد كبير.
      
      دوى رنين مفاجئ في الأعلى، تلاه إعلان آلي. "تفعيل البوابة خلال دقيقتين."
      
      "خلاص، هي دي اللحظة،" بدأ هنري، متنهداً بعمق. "دقيقتين إما نصنع التاريخ أو نصبح عبرة."
      
      ضحك رون بهدوء. "أه، مفيش ضغط خالص، مش كده؟ مجرد يوم شغل عادي."
      
      ابتسم هنري ابتسامة ساخرة. "عمرك فكرت إننا هنكون هنا، بنعمل ده؟ على وشك نفتح بوابة لـ... ربنا وحده عالم فين؟"
      
      "أنا طول عمري فاكر إننا هنعمل قفزات مظلية من ارتفاعات شاهقة أو نحارب الشيوعيين على القمر. لو كنت قلتلي وأنا في ثانوي الكلام ده، كنت هاقولك إنك... رتبك مقفولة في أماكن غلط خالص."
      
      ابتسم هنري. يبدو أن صديقه القديم مثقف أكثر مما كان يظن. "عارف، جزء مني لسه بيفكر إذا كان كل ده مجرد جلسة تقمص أدوار متقنة وممولة بزيادة،" قالها، وعيناه تعودان إلى غرفة التحكم التي تزداد انشغالاً.
      
      اتكأ رون على سياج. "لو كانت كده، فبصراحة إنتاجهم جبار."
      
      "فعلاً. ماشي،" تنهد هنري، متفقداً خزانة بندقيته للمرة الأخيرة، "خلينا بس نأمل إن الحاجة الوحيدة اللي نقابلها الناحية التانية تكون غزال فضائي أو حاجة شبه كده. أقدر أتعامل مع ده."
      
      "متفق،" رد رون، "أي حاجة أحسن من إننا نقابل وحوش ضخمة أو أهوال كونية."
      
      عادت عينا هنري إلى رون. "جاهز؟"
      
      "أكتر من أي وقت."
      
      رنين آخر اخترق المكان. "تفعيل البوابة خلال عشرة... تسعة... ثمانية... سبعة..."
      
      بدأت البوابة تئن، وارتفعت حدة الصوت بثبات، متزامنة بشكل شبه عضوي مع العد التنازلي. بدأت حلقات ضوئية متحدة المركز على إطار البوابة تضيء واحدة تلو الأخرى، مكونة شلالاً مشعاً نحو المركز. كل حلقة مضيئة فصلت نفسها عن الهيكل الرئيسي، وبدأت تدور في الهواء. تجسدت أشكال هندسية – خماسية، سداسية، لوالب معقدة – كما لو نقشتها أيادٍ خفية. بدت كأنها دوائر سحرية من وسائط الفانتازيا العامة، ولكنها مصقولة أكثر بكثير.
      
      "ستة... خمسة... أربعة..."
      
      تصاعد الأنين إلى رنين دوار مع تسارع الحلقات المضيئة. تحركت بمزيج غريب من الدقة الميكانيكية والسلاسة العضوية، مصطفة في تسلسل بدا وكأنه يجمع بين عوالم الرياضيات الدقيقة والرموز الغامضة. تحولت النقوش والرموز إلى تيارات متدفقة من الضوء، وتثبتت الأنماط في مكانها كما لو كانت تدير تروس قفل كوني.
      
      "ثلاثة... اثنان... واحد..."
      
      أخيراً، بدت حلقات البوابة الدوارة وكأنها وصلت إلى نقطة توازن. توقفت عن الدوران، وتثبتت في مكانها مع دوي نهائي مدوٍ.
      
      انفجر وميض ضوئي مبهر من وسط البوابة، كان مشعاً لدرجة أن هنري ورون ضيقا أعينهما بشكل لا إرادي على الرغم من الأقنعة الواقية للخوذات. نبضت مجموعات السطوع، مرسلة موجة من الطاقة نحو مركز البوابة. عندما اصطدمت بالأشكال الهندسية المتكونة داخل الحلقات، انطلق رد فعل متسلسل – كل رمز غامض تعزز بالطاقة القادمة، مما ضخم قوتها الجماعية ومهد الطريق للدائرة المتفتحة.
      
      وبعد ذلك، وبنفس السرعة التي بدأت بها، تحولت الفوضى إلى كرة متلألئة من الضوء. دارت الألوان على سطحها – أزرق، أخضر، بنفسجي، كلها مغطاة بتوهج فضي من عالم آخر. أنماط متكسرة تشبه الدوائر السحرية تومض عبر السطح على فترات غير منتظمة. كان الأمر أشبه بالنظر إلى ثقب أسود، ولكن بدون الظلام. حول حوافها، تمدد الضوء من الغرفة وتشوه – عدسة جاذبية، ولكن بدون السحب الساحق.
      
      كان أجمل، وأكثر رعباً، وأكثر شيء مذهل رآه هنري في حياته.
      
      "الاتصال مستقر، لم يتم الكشف عن أي مخالفات،" أعلنت لومبارد عبر الاتصالات.
      
      "استعدوا لإطلاق العربة،" تردد صوت هاردينج تالياً، ونبرته يشوبها ترقب خفي – انحراف نادر ولكنه مبرر عن شخصيته المعتادة.
      
      شاهد هنري ورون شاشة على وحدة التحكم الخاصة بهما تعرض بثاً مباشراً من كاميرات العربة. في الأمام، اندفعت العربة، وتدحرجت ببطء إلى البوابة. "و'القدر' يصنع التاريخ،" تمتم رون.
      
      لجزء من الثانية، تشوش بث الكاميرا، والتوى الضوء حولها أثناء عبورها البوابة. رؤية المشهد المتغير السائل آذت عينيه بصراحة؛ فكل ما رآه لا بد أنه كان انتهاكاً كاملاً لقوانين الفيزياء. ثم، فجأة كما بدأت، توقفت الفوضى واستقرت الرؤية.
      
      خرجت العربة إلى منظر طبيعي خلاب لدرجة أنه بدا وكأنه خرج مباشرة من لوحة طبيعية خلابة. امتدت مروج خضراء متموجة على مد نظر كاميراتها، تتخللها بقع ملونة من الزهور البرية التي تمايلت مع النسيم. وقفت جبال بعيدة في الخلفية، مهيبة وفارضة نفسها في نفس الوقت. والسماء في الأعلى، يا إلهي، كانت تتمتع بصفاء نادراً ما يُرى على الأرض – خلفية شاشة كمبيوتر تحولت إلى حقيقة.
      
      لكن لم يكن كل شيء طبيعة وأشعة شمس. كانت تتناثر عبر المناظر الطبيعية هياكل تبدو وكأنها تنتمي إلى عالم حلقي فضائي، وليس نسخة من عالم خيالي زي بتاع الألعاب. كانت مصنوعة من نوع من المعدن لم يره هنري من قبل، تعكس منحنياتها وزواياها الأنيقة هندسة البوابة. مسارات ضوئية أثيرية ربطت بين منصات مجزأة، بعضها يحوم بشكل غير طبيعي فوق الأرض، كما لو أن قوانين الجاذبية كانت مجرد اقتراحات وليست قواعد. الأطلال – إذا كان يمكن حتى تسمية الهياكل المحفوظة جيداً بهذا الاسم – بدت متقدمة بشكل غير عادي، كما لو أن بنائيها حملوا نوعاً من عباءة المسؤولية.
      
      بينما غامرت العربة أبعد، أعادت بصرياتها التركيز على حركة أمامها. ظهرت أشكال من خط الأشجار المجاور للأطلال. كانوا مستعدين، وتشكيلتهم تشير إلى أنهم كانوا ينتظرون شيئاً ما – ربما تفعيل البوابة. وقف الفرسان على أهبة الاستعداد، دروعهم تشبه رمادية الفولاذ، ولكنها أكثر حيوية. حملت دروعهم تصاميم مزخرفة متوهجة، كما لو كانت مسحورة.
      
      بجانبهم وقف أفراد يرتدون أردية، يحملون عصياً متوجة بأجرام سماوية أو أحجار كريمة تنبعث منها هالات باهتة: سحرة، لا بد أنهم كذلك. تمتم السحرة بتعاويذ أو تلاعبوا بتعاويذهم أو تلاعبوا بقطعهم الأثرية، كما لو كانوا متناغمين مع مجال طاقة لم تستطع مستشعرات العربة قياسه. من الواضح أن لديهم إجراءاتهم وبروتوكولاتهم الخاصة.
      
      ساد الصمت المطبق في الحظيرة للحظة، ثم انفجرت في موجة من الهمسات. كان بعض الناس يكادون يقفزون من الإثارة، متحمسين جداً للفانتازيا الواقعية التي تتكشف على الشاشة أو لمجرد حقيقة أنهم أجروا أخيراً أول اتصال مع حياة فضائية – بغض النظر عن مظهرهم البشري. بدا آخرون محبطين، وكأنهم كانوا يأملون في شيء أكثر تميزاً.
      
      في طليعة هذا التجمع كانت هناك شخصية فريدة. رداؤه الأزرق مزين برموز متدفقة وأنماط دائرية، منسوجة ببراعة بخيوط فضية تلتقط الضوء وتعكسه. كانت عصاه أكثر إثارة للإعجاب، يعلوها جوهرة أرجوانية جعلت الآخرين يبدون كحلي رخيصة. حتى من خلال الانفصال الميكانيكي لعدسة العربة، استطاع هنري أن يجزم – كان هذا رجلاً ذا نفوذ هائل وقدرة خارقة.
      
      "لازم يكون ده زعيمهم،" تمتم هنري.
      
      "انتقلوا إلى حالة الاستعداد القتالي 'جيم'،" تدخل صوت هاردينج، وكلماته تخترق المشاهد المذهلة. "ابقوا أسلحتكم في الوضع 1. كيانات مجهولة في الأمام؛ لا يمكننا افتراض النوايا. سيدي السفير، استعد للاتصال الأول. جميع الوحدات، كونوا مستعدين للطوارئ."
      
      حول هنري وحدة التحكم إلى مستوى استعداد أعلى، منبهاً فريق الأمن على جانبهم من البوابة. ومض شريط جانبي على الشاشة من الأخضر إلى الكهرماني، متماشياً مع تغيير مستوى الاستعداد. ألقى نظرة على رون، الذي كان قد ضبط بالفعل تركيز الكاميرات الثانوية، مجهزاً إياها للحركة السريعة وتحديد الأهداف.
      
      "سفير بيري، وحدة التحكم الخاصة بك مفعلة،" أعلنت لومبارد، وصوتها ثابت بشكل مدهش نظراً للظروف.
      
      حلقت يدا بيري للحظات فوق الواجهة كما لو كان على وشك لعب مباراة شطرنج، أو ربما كما لو كان يتذوق ثقل اللحظة. شغل وحدة التحكم وقرب مقعده للداخل، وأخذ نفساً عميقاً.
      
      عبر الغرفة، تبادل التقنيون النظرات. لقد انتقلوا مما كان يمكن أن يكون محاولة التفعيل الخامسة عشرة الفاشلة إلى التحديق في سحرة وفرسان حقيقيين في غمضة عين. بدا البعض على وشك فتح زجاجات الاحتفال، بينما بدا آخرون أكثر حذراً بشأن هذه النظرة الأولى للحياة بين النجوم. بدوا يشبهونه إلى حد ما، ينتظرون فقط وقوع المصيبة.
      
      عادت كل الأنظار إلى البث المباشر المعروض على شاشات مختلفة في جميع أنحاء الحظيرة.
      
      "تقدم،" قال هاردينج أخيراً.
      
      صرير عجلات الطائرة بدون طيار فوق التربة الغريبة والمألوفة في آن واحد، الشبيهة بالأرض، وهي تقترب ببطء من تجمع الفرسان والسحرة. تومض تعبيرات الحيرة على ملامحهم، وتتحول تدريجياً إلى تعبيرات من الفضول الشديد، أو التوقير، أو حتى الخوف.
      
      الزعيم – كبير السحرة، كما أسماه هنري عقلياً – ضيق عينيه مع اقتراب العربة. رفع عصاه، ليس وكأنه على وشك الهجوم، ولكن أشبه بأنه يحاول قراءة الموقف. قال شيئاً، ربما تعويذة ناعمة، وتوهجت الجوهرة في قمة عصاه للحظات. كان الأمر كما لو كان يفحص الطائرة بدون طيار، ربما يسعى لفهم طبيعتها أو أصلها.
      
      "المستشعرات البصرية والحرارية لا تزال اسمية،" أفاد تقني مجاور. "لا توجد علامات تشويش أو تدخل."
      
      كان هنري مستعداً لطلب الإغلاق عند أدنى تلميح بالعداء، لكن لم يأت شيء من هذا القبيل. بدلاً من ذلك، حدق كبير السحرة في العربة للحظة طويلة، ثم خفض عصاه ببطء وتراجع خطوة إلى الوراء. تبعه الفرسان والسحرة، مما أعطى العربة بعض المساحة.
      
      "شكلهم بيدونا مساحة،" لاحظ هنري، وشعر بأن الغرفة تطلق زفيراً جماعياً من الأنفاس المحبوسة.
      
      بلل بيري شفتيه، وإصبعه يحوم فوق وحدة التحكم. "بدء تسلسل الاتصال الأول." بضغطة واحدة، دبت الحياة في نظام الإسقاط الخارجي للعربة. ملأ همهمة منخفضة الهواء بينما أسقطت مربعاً بسيطاً على الأرض العشبية التي تقع بين العربة والسكان المحليين.
      
      نظر كبير السحرة إلى الشكل للحظة، ثم ألقى نظرة على جماعته. كان الأمر وكأنهم يجرون محادثة كاملة دون أن ينطقوا بكلمة، مجرد مجموعة من النظرات والإيماءات الصغيرة. ثم، بحركة رشيقة من عصاه، قام كبير السحرة بحركته. توهجت الجوهرة الموجودة أعلى العصا. تشكل مربع مماثل، تم استحضاره من الهواء الطلق، يحوم فوق الإسقاط على الأرض. تطابق فوق المربع الأصلي بدقة شديدة كما لو أن مخططاً قد وُضع فوق نموذج مهندس معماري.
      
      "لا يصدق،" همست لومبارد، والصدمة والإثارة في صوتها واضحتان حتى عبر الاتصالات.
      
      "لا توجد لغة جسد عدائية..." تدخل صوت هاردينج، ولمحة من الارتياح تلون نبرته الحجرية المعتادة. "استمروا في البروتوكول."
      
      تغير الجو في غرفة التحكم بشكل ملحوظ، مثل سلك مشدود تم إرخاؤه فجأة. ما رأوه لم يكن مجرد لفتة متبادلة – لقد كان مرآة، اعترافاً يمتد عبر العوالم، واحد صنع التاريخ للتو.
      
      لم يضيع بيري أي وقت. بدأ التسلسل التالي، وابتسامة صغيرة متفائلة على وجهه كطفل في صباح عيد الميلاد. تحول الإسقاط من الأشكال إلى نقاط ضوء بسيطة. ظهرت نقطة واحدة أولاً، تليها نقطتان، ثم ثلاث.
      
      بدا كبير السحرة وكأنه يتداول الأمر للحظة، وعيناه تتحركان بين عصاه والإسقاط. بحركة أنيقة أخرى، اشتعلت الجوهرة في قمة عصاه. تجسدت نقاط زرقاء في الهواء، تعد تصاعدياً من واحد إلى عشرة. ملأ نفس جماعي غرفة التحكم.
      
      بعد ترك النقاط باقية للحظة، انتقل بيري إلى التسلسل التالي. ضغط على مفتاح آخر، وتحول الإسقاط إلى تسلسل من النقاط والرموز للدلالة على الجمع البسيط. ظهرت نقطتان، ثم علامة زائد، تليها ثلاث نقاط أخرى. جاء خط من الشرطات المتوازية بعد ذلك، وأخيراً، ملأت خمس نقاط المساحة.
      
      شاهد كبير السحرة باهتمام قبل أن يلوح بعصاه مرة أخرى. عادت نقاطه ورموزه إلى الحياة، مكررة تماماً تسلسل بيري. ثلاثة زائد أربعة يساوي سبعة.
      
      "الجمع البسيط،" قالت لومبارد، والابتهاج في صوتها يتضخم. "لقد تواصلنا للتو بالعمليات الحسابية الأساسية عبر العوالم."
      
      "حسناً،" أشار هاردينج، "دعونا نرفع المستوى قليلاً."
      
      ضغطة مفتاح أخرى، وتغير الإسقاط مرة أخرى. هذه المرة، كان مثلثاً، جوانبه محددة بالنقاط: ثلاث على جانب، وأربع على آخر، والوتر فارغ بشكل واضح.
      
      لأول مرة منذ بدء التفاعل، تردد كبير السحرة. ضيق عينيه على المثلث وكأنه لغز صعب بشكل خاص. خفتت الجوهرة على عصاه للحظة وجيزة، ثم اشتعلت مرة أخرى كما لو كانت تحاكي عدم يقين سيدها المتذبذب. مرت الثواني، كل واحدة تزيد من التوتر في غرفة التحكم. ثم، بشكل عرضي تقريباً، لوح بعصاه. ظهرت خمس نقاط على طول الوتر الذي كان فارغاً سابقاً.
      
      "يا نهار أبيض،" تمتم هنري، وفكه يكاد يسقط.
      
      أومأ رون برأسه، مذهولاً بنفس القدر. "إنه يفهم نظرية فيثاغورس."
      
      لكن كبير السحرة لم ينته. ببضع تلويحات أخرى من عصاه، استحضر سلسلة من النقاط والرموز، مستخدماً دائرة لتمثيل الضرب. ثلاثة في ثلاثة زائد أربعة في أربعة يساوي خمسة في خمسة. ثم رسم مثلثاً جديداً، جوانبه الفردية تحتوي على خمس، واثنتي عشرة، وثلاث عشرة نقطة تليها الصيغة الخاصة بها.
      
      

      Pages